لم تكُن نشأة الأيديولوجية الإسلامية العنيفة من قبيل الصدفة في التاريخ العربي والإسلامي؛ فقد تَبع ظهورها دائمًا سقوط النظام المُهيمن.

لقد تجسَّد ذلك العنف في الفترات التي تَلَت سقوط الدولة العثمانية المملوكية في مصر وشرق البحر المتوسط في أوائل القرن التاسع عشر، وبعد انهيار العهد الليبرالي العربي في أربعينات القرن الماضي، وفي سبعينات القرن الماضي حين ثبت عجز القومية العربية العلمانية عن الوفاء بالآمال الكبرى التي زرعت بذورها في نفوس العرب. إن النماذج القائمة من الحركات الإسلامية العنيفة، التي تصول وتجول في شرق البحر المتوسط، وشمال أفريقيا، وبشكل متزايد في شبه الجزيرة العربية، تحاول ملء الفراغ الذي خلَّفه سقوط النظام الإقليمي الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية. كما أن وجود هذه الحركات يعكس قلقًا عميقًا ومُعضلات تضرب بجذورها في العالم العربي والإسلامي.

لقد أدَّت الثورات العربية في السنوات الخمس الفائتة إلى البدء في مرحلة انتقالية مُكثفة، تنطوي على صراع بين أركان النظام الإقليمي القديم التي فقدت سلطتها الأخلاقية ولكنها تحتفظ بالعديد من مقاليد السلطة، وبين القوى الشبابية التي ترفض النظام القديم ولكنها لا تملك سوى القليل من الموارد، تلك القوى التي لم تتفق في داخلها، حتى الآن، على الإطار المرجعي الذي يريدون تحقيقه في بلادهم. تشهد المرحلة الانتقالية محاولات الكثير من العائلات الغنية -التي غالبًا ما تكون العائلات الحاكمة أيضًا- تأمين مستقبلهم في وقت تتعاظم فيه التغيُّرات الاقتصادية الهائلة، وأبرزها فقدان نفط الشرق الأوسط قيمته الاستراتيجية (والمالية أيضًا) على نحوٍ متزايد. يصادف هذا التحوُّل بروز أكبر فوجٍ في التاريخ العربي من المراهقين والشباب في العشرينات والثلاثينات من أعمارهم.

تدور المرحلة الانتقالية، بشكل أساسي، في صراعات بين تفسيرات مختلفة لليبرالية والقومية العربية، وبين العروبة والأعراق الأخرى في المنطقة، وبين العروبة والأيديولوجية الإسلامية. إن مثل هذا الانتقال حين يجري في إطار زمني مضغوط فمن شأنه أن يُحدث إرباكًا هائلًا للمجتمعات التي تمُر به. لقد تكشَّف هذا الانتقال تحت أنظار مئات الملايين من العرب والمسلمين الذين شاهدوه عبر بثٍ مباشرٍ على شاشات الفضائيات والإنترنت. لقد رأوا بأعينهم القسوة، والفزع، والرعب، والسَخَف الذين يُصاحبون مثل هذا التحوُّل الضخم.

وما يُعزز التهاب هذا التحوُّل هو وجود مشكلة أخلاقية حادة في كافة أنحاء العالمين العربي والإسلامي. في أقل من خمس سنوات، قُتل أكثر من ربع مليون عربي؛ وشُرِّد ما يقرب من أربعة ملايين آخرين. ورغم ذلك، كانت ردود الفعل السياسية والإنسانية العربية والإسلامية تدعو إلى الإحباط. لم يخلق هذا انفصالًا صارخًا فحسب بين الملايين من اللاجئين في شرق البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا الآن وبين بقية المجتمعات العربية، ولكنَّه خلق أيضًا انفصالًا شعوريًا في داخل العالمين العربي والإسلامي. من جهة ثمَّة خراب، وعلى الجهة الأخرى، ثمَّة لامبالاة وحالة عادية مُفتعلة. إنها ازدواجية صادمةٌ ومقززة بالنسبة إلى الكثيرين.

ثمَّة غضب يضطرم بسبب سقوط النظام الذي كان يسيطر على المنطقة على مدى عقود، وإفلاس الأنظمة الحاكمة القديمة، والارتباك، والنفور من السُبات الذي يلُف كل شيء. يتجلَّى هذا الغضب في الاندفاع نحو المرجعية القِيَمية الوحيدة التي، في نظر الملايين، ما تزال راسخة: الدين. لقد تشرَّبت الأيديولوجية الإسلامية والمسيحية في الشرق قوة دفع هائلة على مدى السنوات القليلة الماضية. وفي كلٍ منهما، تولَّت المجموعات الرائدة دور المُخلِّص (الوعد بالخلاص في زمن الفوضى وتراجُع اليقين) أو الشهيد (استحضار الكراهية وإثارة نزعة الانتقام، اللذان يمثِّلان ركيزةً فكرية وعاطفية قوية). وقد عزَّز هذا الدور أن المعارك بين العلمانية العربية والأيديولوجية الإسلامية، وبين القوى القديمة والجديدة، قد أعطت أكبر الجماعات الإسلامية في جميع أنحاء العالم العربي فُرصًا متتالية للركون إلى دور الضحية. هنا، أصبح الإسلام ليس فقط ملجأً في عالمٍ تتداعى فيه كل الإيديولوجيات – و لكن أيضا، في نظر الألاف، قضية واجبهم أن يدافعوا عنها، ولو بالموت.

قدَّم سقوط الأيديولوجيات المُتناحرة للإسلاميين فرصةً تاريخية. لقد سُحِقَ مفهوم «الأمَّة» على يد الليبرالية العربية، والقومية العربية، وإملاءات العلمانية من قِبَل الأنظمة الإيرانية والتركية على شعوبهم (طوال معظم القرن العشرين)؛ سُحِقَ مفهوم «الأمَّة» كإشارةٍ إلى المجتمع الإسلامي باعتباره هوية شاملة. كان هذا يُثير غضب الإسلاميين دائمًا؛ وعلى مدى عقود، كان الطموح إلى إحياء الأمة هو ما يُحرِّك جماعات إسلامية مختلفة. قدَّم سقوط النظام الأقليمي فرصةً للجماعات الإسلامية لمحاولة أسلمة بلادٍ مختلفة، لكنه أغرى أيضًا إسلاميين آخرين بمحاولة إحياء مفهوم «الأمة» بالقوَّة.
على عكس معظم الجماعات الإسلامية، لم يطرح الإسلاميون الذين يؤمنون بالعُنف أفكارًا مختلفة للتوفيق بين الإسلام والحداثة. لقدر رفضوا، ببساطة، كل ما استقرَّ في العالمين العربي والإسلامي خلال القرنين الماضيين باعتبارها معصيةَ وابتعادًا عن الإسلام الحقيقي. ووفقَا لوجهة النظر تلك، لا يحتاج مفهومهم للإسلام إلى أن يتكيَّف مع التاريخ الحديث لمجتمعاتهم، ولا إلى إدخال مفاهيم جديدة، ولا إلى إظهار أي نوع من التسامح مع الآخرين، أو معتقداتهم ومفاهيمهم، أو أسلوب حياتهم. هذه الشعور بامتلاك الحقيقة المطلقة (أو النزوع إلى النقاء) كانت بالنسبة إلى البعض ملاذًا عاطفيًا واجتماعيًا.

تشابكَ العنف الإسلامي أيضًا بقوة مع توقٍ مجموعات كبيرة من الشباب المسلم الى العودة لاحساس بتفوق العالم الإسلامي و سطوته. لمدة لا تقل عن قرنين الآن، فشل العالم الإسلامي للحاق بركب «الآخر» التاريخي الذي طالما نظر إليه: العالم المسيحي. وعلى الرغم من أن مفهوم العالم المسيحي قد ضعُف بشدةٍ بسبب موجات الحداثة، والتقدُّم الفكري والعلمي في الغرب، لم ينطفئ بريق الأيديولوجية الإسلامية أبدًا في الشرق الأوسط. وهكذا، في زمن القلق، والخوف، والفراغ، تمتزج الدعوة إلى الدفاع عن الإسلام وتطبيق الأيديولوجية الإسلامية بالقوة مع وعيٍ حادٍ بمدى الضعف والسبات العميق الذي غرق فيه العالم الإسلامي، خلافًا لقوة الغرب والمجد الذي بناه.
بالنسبة إلى عشرات الآلاف من شباب المسلمين، كان ذلك التعبير الحازم عن الأيديولوجية الإسلامية شكلًا من أشكال الاعتراض على تدخُلات الغرب المتكررة في العالم الإسلامي ومجابهتها. وبينما استطاع الغرب السيطرة بشكل مباشرٍ على أجزاء كبيرة من العالمين العربي والإسلامي، من أفغانستان إلى العراق (بما في ذلك بغداد، التي تُعد واحدة من أبرز العواصم في تاريخ الحضارة الإسلامية)، يُنظر إلى المواقف الغربية تجاه المُجتمعات الإسلامية باعتبارها مُتعالية في أحسن الأحوال، ومُتشبعةً بالازدراء في أسوئها.

يتجاوز الخطر هنا الآلاف من القتلى والفوضى الهائلة التي تؤدي إليها الأيديولوجية الإسلامية العنيفة. إن هذا المزيج من الحنين إلى التفوُّق الإسلامي والتحريض على العنف يُعيد تعريف طريقة تفاعل العالم الإسلامي مع الغرب لفترة طويلة باعتبارها علاقة قائمةً على العداوة والمواجهة. ينُم هذا عن فهمٍ محدودٍ للتاريخ الإسلامي؛ إذ يختصر تجربة العالم الإسلامي مع الحداثة في القرنين الأخيرين إلى مجرد صراع مع الاستعمار، ومختلف المواجهات الجيوستراتيجية، وبتعبير صامويل هنتنغتون: «صراع حضارات». في هذه الحالة، يختصر الإسلاميون الذين يؤمنون بالعنف هذا الصراع في أبسط أشكاله وأغلظها: القتل باسم الدين. يزيد هذا من حدة الانقسام داخل العالم الإسلامي؛ فهو يوسِّع الاستقطاب بين الإسلاميين والعلمانيين ليُصبح الاستقطاب بين أولئك الذين يرون التاريخ الإسلامي من منظور نمو وتطور حضارته (التي استفادت من الحضارة الغربية وأضافت إليها)، وأولئك الذين يتجاهلون مساره الغني عبر قرون طويلة، وتفاعلاته الثقافية المتنوعة، ويحصرون الإسلام في المجتمعات الأولى التي نشأ فيها في شبه الجزيرة العربية وشرق المتوسط في القرنين السابع والثامن الميلاديين. يتجلَّى «الصراع المتواصل بين الحضارات»، الذي بشَّر به هنتنغتون، في صراعٍ متواصل داخل العالم الإسلامي.

تُهدد الأيديولوجية الإسلامية العنيفة بمحو التفاهمات الحضارية التي بناها الإسلام لصالحِ اعتناقٍ متشددٍ لفهم المجتمع الإسلامي الأول، وتفسيرات حرفية للمصادر الفقهية. ترفض هذه الأيديولوجية كافة الابتكارات الفكرية التي طوَّرها المفكرون الإسلاميون لضمان استمرار الإسلام في دوره كإطار اجتماعي، مُلائم لمختلف الأجيال، وقابل للتطبيق في مجتمعات متنوعة. تنبذ هذه الأيديولوجية أيضًا أعمال الفلاسفة المسلمين في القرون الوسطى، الذين خرجوا بالفكر الإسلامي من أصوله الصحراوية الأولى، ونقلوه إلى العالمية، وإلى الثراء الفكري لبلاد فارس، والهلال الخصيب، ومصر، وجنوب أوروبا وشبه القارة الهندية في وقت لاحق. كما ترفض أعمال مفكري العصر الحديث، مثل جمال الدين الافغاني ومحمد عبده، الذي أسَّس لتوفيق الفهم التقليدي للفقه الإسلامي مع أساليب الحياة في المجتمعات الحديثة. دون هذه المساهمة، فإنه من المحتمل جدًا أن الليبرالية والقومية العربية كانتا لتُصبحا معاديتين للإسلام، وليس فقط للأيديولوجية السياسية الإسلامية، على غرار علمانية كمال أتاتورك في تركيا. وهكذا، عن طريق نبذ التراث الغني للحضارة الإسلامية، ومحاولة فرض التفسيرات القديمة للإسلام على المجتمعات الحديثة، تقود الحركات الإسلامية العنيفة الدين نفسه بحماقةٍ إلى مواجهة مع الحداثة.

إن التخلي عن تراث الحضارة الاسلامية الغني يُجبر العالم الإسلامي على تكرار ماضيه؛ إذ يفرض عليه الخضوع لتجارب مريرة كان قد عانى منها في القرن العاشر، ومرات عديدة منذ ذلك الحين، تجارب طوَّرت كيفية تحويل هيكل عقائدي مَرِن في ذاته إلى إطار مرجعي اجتماعي وسياسي، قابلٍ للتطبيق في مجتمعات ذات خبرات تاريخية وخصائص ثقافية مختلفة. طوال هذه التجارب العديدة، عانى العالم الإسلامي حلقاتٍ مختلفة من العنف.

كانت بعض حلقات هذا العنف منطقيةً، بالرغم من بشاعتها. فعلى سبيل المثال، في مسعىً ناجح لتوحيد أجزاء كبيرة من شبه الجزيرة العربية وفقًا للمذهب الوهابي شديد المُحافظة والتفسير الحرفي للدين، استخدم عبد العزيز آل سعود ومقاتلوه الذين انطلقوا بدافعٍ ديني العنف. هنا، كان للعنف هدفٌ واضحٌ وقابل للتحقيق: إقامة المملكة العربية السعودية الإسلامية. ولاقى النظام الاجتماعي والسياسي الذي ترتكز عليه المملكة صدىً مع التجربة التاريخية والخصائص الثقافية للمجتمعات التي كانت تعيش في هذا الجزء من العالم الإسلامي في العقود الأولى من القرن العشرين. ثمَّة أمثلة مشابهة في التاريخ كان فيها العنف، البغيض كما هو الحال دائمًا، نهجًا فعَّالًا لتحقيق هدف حيوي مستدام.

لكن أعمال العنف التي تتبنَّاها وتروِّج لها اليوم مختلف الجماعات الجهادية في شمال أفريقيا وشرق البحر الأبيض المتوسط لا معنى لها. لا يتعلَّق الأمر فقط بكون هدفهم السياسي (إقامة دولة على طراز القرن السابع في قلب العالم العربي اليوم) غير قابل للتحقيق؛ إنه يتعلَّق بكونهم يعيشون في وهم. إن إحياء أول شكل من أشكال الدولة الإسلامية، مجرَّدًا من كافة الميزات الدينية والتاريخية والثقافية والأخلاقية التي جعلت من نسخته الأصلية بذرةً لحضارة ثرية، ليس هدفًا من شأنه أن يُلهم أو يتردد صداه بين مجموعة كبيرة من العرب أو المسلمين اليوم.

إن فكر الحركات الإسلامية العنيفة اليوم يُنكر أيضًا على العالم الإسلامي التطورات الكبرى في مجال حقوق الإنسان والحقوق المدنية التي تقترب قطاعات واسعة في معظم المجتمعات الإسلامية من النظر إليها باعتبارها حقوقًا أساسية. كما تُقيد هذه الحركات مجتمعاتها من حق البحث عن وسائل مبتكرة للاحتفاظ بإطار مرجعي إسلامي (تحت أيَّة تعريفات)، وفي الوقت نفسه، قبول معالم جديدة طوَّرتها المعرفة الإنسانية. إن هذا التفكير الجامد والأطر المُقيدة ستجعل غالبية المسلمين منفصلين تمامًا عن التفسيرات التي تجعلها علوم الفيزياء والأحياء غير قابلة للدحض يومًا بعد يوم. لن يُرسِّخ هذا فقط السبات الذي يغرق فيه العالم الإسلامي، بل سوف يُضعف تدريجيًا العلاقة بين ملايين الشباب المسلمين (والأجيال القادمة)، وبين الإسلام نفسه.

مع مرور الوقت، سيصبح هذا خطرًا على الدين. إن بساطة الفكر العنيف، والفساد الذي يُلحِقه بالنفوس، والقسوة والفجاجة التي يُولِّدها داخل المجتمعات، سيؤدون إلى إفقار وإفساد أي محاولة لتجديد الفقه الإسلامي. كلما غرس هذا التفكير نفسه داخل العالم الإسلامي، سيصبح العالم الإسلامي أقل قدرةً في التعامل مع النصوص الدينية، ومع مصادرها المتعددة. ستكون النتيجة طرقًا أقل إبداعًا في تفسير النصوص، تحديدًا في الوقت الذي ستضعها فيه الأجيال الجديدة تحت المجهر نظرًا لوجهات النظر الاجتماعية المختلفة التي ستتسم بها، والثوابت العلمية التي ستكون مترسخةً لديها. لذا؛ يمكن القول إن الأيديولوجية الإسلامية العنيفة التي نشهدها اليوم تُمثِّل واحدًا من أهم الأخطار التي واجهها العالم الإسلامي، والإسلام نفسه، في أي وقت مضى.