رؤية مستقبلية لنظام عربي جديد

يخوض العالم العربي صراعات أيديولوجية، وطائفية، وعِرقية، أحدثت استقطابات لم تشهد المنطقة مثلها في آخر قرنٍ من الزمان على الأقل. لم تعُد الحكومات تُمثل حَكَمًا بين جماعات المصالح المتنافسة؛ مما أدى إلى فقدان الدولة شرعيتها للحكم.
يتصاعد العنف في كافة أنحاء المنطقة. لقد تحوَّلت السياسة إلى نزاعٍ مُسلَّح؛ وأصبح القتل الذي ترعاه الدولة ظاهرة شائعة. وتحوَّلت عدة دول إلى غنيمة حربٍ تتصارع عليها فصائل مختلفة، متجاهلين مصائر الشعوب تمامًا. إن الحافز الذي كان يدفع جماعات مختلفة إلى توحيد صفوفها في مجتمعات متماسكة قد تقلَّص بصورةٍ كبيرة.
سينبثق من بين هذه الأنقاض نظام عربي جديد، لكنه سيستغرق بعض الوقت. ستستنزف بعض الدول طاقتها في صراعاتها الداخلية على المدى المتوسط؛ فقد انتهت السلطة المركزية بالفعل في العراق، وليبيا، والصومال، والسودان، وسوريا، واليمن، كما تواجه الكويت ولبنان توترات حادةٍ تهدد بتمزيق نسيجها الاجتماعي الداخلي. ستواجه الجزائر قريبًا عدة اضطرابات حين تدخل في صراع على السلطة بعد الوفاة المرتقبة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة. ستنقسم دول أخرى إلى مناطق فرعية ستنفصل شيئًا فشيئًا عن العالم العربي (مثل جنوب السودان وكردستان)؛ وستوثِّق هذه الدويلات صلاتها بأفريقيا وآسيا.
ونتيجةً لكل ذلك، فإن العالم العربي سيشهد انكماشًا.
ليس ثمة حلول كثيرة لهذه الأزمات. لقد تبنَّت الأنظمة التي تحكم الدول العربية الكبرى نظامًا أبويًا؛ فأرست حكومة المملكة العربية السعودية، على وجه الخصوص، شرعيتها عبر دورها كراعٍ للمواطنين؛ فتمكَّنت من كسب رضا الطبقة الوسطى، بينما يؤكد حلفاؤها الدينيون على «الإرادة العامة» و«طاعة الحاكم»؛ وستؤدي هذه الاستراتيجيات إلى نتائج عكسية.
في ظل انخفاض أسعار النفط، التي ستستقر عند مستويات أقل من العقد السابق، لن تتمكَّن الحكومات من الاستمرار في برامج الرعاية الاجتماعية التي التزمت بها. والأهم من ذلك أن هذا النظام الأبوي لا يستطيع اجتذاب قطاعات واسعة من الشباب الذين يتمتعون بمستوى تعليم مرتفع، واستقلالٍ مادي، وروحٍ مبادرةٍ مجتمعية، واطلاع على العالم، أكثر من أي جيل عربي سابق.
لقد تعلَّمت الأنظمة العربية الدرس من الثورات العربية، لكنه كان الدرس الخطأ. أحكمت الدول العربية سيطرتها على قنوات التلفاز، وهو وسيلة الإعلام الأقوى في الشرق الأوسط بالنظر إلى المعدلات المُزرية للأمية التي تزيد على 40 في المائة. تفنَّنت النخب السياسية في استخدام الدعاية التي تؤثر في الرأي العام؛ لكنها لا تُقابل بالرضا. وباستثناءات قليلة، مثل إصلاح أسعار الطاقة في مصر ومشروع الجهوية الموسَّعة في المغرب، فإن ثمة غياب مُقلق لدى الحكومات في طرق التعامل مع مشكلات العالم العربي الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية.
ما يبدو مثيرًا للعجب على وجه الخصوص هو تهرُّب الأنظمة العربية من القضية الأساسية: ضعف القدرة التنافسية على الصعيدين المحلي والعالمي. إن نسبة كبيرة من الشباب تحت 35 عامًا، الذين يُقدر عددهم بـ180 مليون عربي، لا تلائم قدراتهم سوق العمل. وبصرف النظر عن الشركات متعددة الجنسيات، فإن العديد من الشباب العرب لا يصلحون للعمل في القطاع الخاص في بلادهم. سيتجه أغلب هؤلاء الشباب إلى الصناعات الموسمية، مثل البناء والسياحة، بعد أن تواجه الأنظمة استحالة رعاية المواطنين المعوزين. سترتفع الأسعار وتظل الأجور ثابتة؛ وستعتمد العديد من الدول على قوى السوق لتوفير احتياجاتها من الطاقة، والطعام، وربما الماء. إن مجموعات كبيرة من الشباب العربي – خاصةً المتعلِّمين – وجودوا أنفسهم محُاصرين بسبب حكومات فقيرة الخيال عديمة الإبداع.
وبالمثل، فإن قوى المعارضة قد فشلت في طرح أفكار أو سياسات جديدة. تُعيد الأحزاب في الخمسين سنة الماضية – باختلاف اتجاهاتها بين الليبرالية والقومية والاشتراكية والوسطية – اجترار خطابٍ سقيم؛ ويستمر القادة العجائز في قيادة أحزاب المعارضة في مختلف أرجاء المنطقة.
سيتصاعد الغضب. توقَّعوا جولة أخرى من التظاهرات في مختلف أنحاء العالم العربي، حتى في الدول التي تبدو مستقرةً اليوم. ستنضم قطاعات من الطبقة الوسطى إلى صفوف الفقراء والمُحبطين. يدفع هذا بالفعل الكثير من النشطاء العرب إلى استكشاف إمكانات جديدة لمواجهة الأنظمة. ومع فشل معظم الانتفاضات التي بدأت في عام 2011، تؤمن العديد من مجموعات الشباب العربي بأن الحراك السلمي لن يؤدي إلى التغيير الذي ينشدون. لقد أذعن بعضهم بالفعل إلى فكرة استخدام العنف ضد قوى السلطة الراسخة؛ وهذا واحد من أهم العوامل التي تغذي الصراعات التي نراها في أجزاء من شمال أفريقيا وشرق المتوسط. ستُراق المزيد من الدماء بسبب النشاط المُسلح المُتزامن مع ممارسة الدول لسياسات عسكرة السلطة.
لقد فقدنا أربعة أمور في وسط هذه التطورات. أولاً؛ أضاعت معظم الدول العربية فرصة الدخول في عملية تحوُّل سلمي. وكما هو مُشاهد، التطوُّر التدريجي لم يعُد خيارًا مطروحًا؛ فستضطر بعض الدول الآن إلى أن تخضع لتحوُّلات عشوائية خطيرة. ثانيًا؛ فقد العالم العربي جزءًا كبيرًا من خبراته المجتمعية والمؤسسية التي تراكمت عبر العقود الماضية؛ وهي خسارة هائلة. لقد تسبَّب الانزلاق إلى حروب أهلية، وتصاعُد العنف بشكل غير مسبوق، وانفصال الحكومات عن شبابها، في هجرة العقول المفكرة من الدول العربية. ثالثًا؛ فقدت أكثر المجتمعات العربية تجانسًا في نسيجها العِرقي والديني قدرتها على التعايش السلمي، خاصةً في شرق المتوسط. وأخيرًا؛ وببساطة شديدة، يمكننا إعلان أن السلطة الأخلاقية قد انهارت في أنحاء عديدة في العالم العربي.
لقد مررنا بنفس التجربة من قبل. في بداية القرن التاسع عشر، فقدت الإدارات العثمانية والمملوكية سيطرتها على السلطة حين وقف مواطنوها وجهًا لوجه أمام الحداثة الأوروبية للمرة الأولى. لقد صُدمت النُخب والطبقة الوسطى العليا من اتساع الهوَّة بينهم وبين الغرب، بالنظر إلى العجز في الموارد والمعارف.
أحدثت مشاريع التحديث تحوُّلاً في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات العربية. الإصلاحات التي قام بها السلطان سليم الأول ومن بعده محمود الثالث في تركيا في منتصف القرن التاسع عشر أدارت دفَّة الاهتمام من العالم العربي إلى أوروبا؛ مما تسبَّب في فراغ سياسي في الجزائر، وشبه الجزيرة العربية، والعراق، ومصر، وسوريا الكبرى، وتونس. طفت التوترات السياسية على السطح؛ وأشعلت مواجهات دموية، خاصةً في نزاع عام 1860 في جبل لبنان بين المسيحيين الموارنة والمسلمين الدروز.
كما أفسح انهيار النظام القديم المجال أمام صعود القوى الإقليمية. فرض المُغامر الألباني محمد علي، مثلاً، سيطرته على وادي النيل بأكمله. وأحيت أسرة آل سعود في وسط الجزيرة العربية تحالفًا قديمًا مع الطائفة الوهابية المُحافظة؛ وفرضوا مجتمعين سيطرتهم على شبه الجزيرة العربية. وسَّعت الأسرة العلوية المالكة في المغرب حكمها جنوبًا في اتجاه المناطق المسلمة في الساحل الغربي لأفريقيا. وبعد عقود قليلة، استغل الهاشميون نفوذ نسبهم الذي يعود إلى النبي محمد في الاستحواذ على ممالك جديدة كانت، لفترة من الزمن، تسيطر على منطقة شرق المتوسط بأكملها. وبطرق مختلفة تمامًا، ثبَّتت الممالك الأربع دعائم حكمها عبر مركزية السلطة السياسية والاقتصادية في معظم أنحاء المنطقة.
جاءت الاستجابة الثانية ردًا على انهيار النظام القديم من جانب القوى الخارجية. احتلَّت بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، أجزاء من العالم العربي. كان هذا مشروعًا توطيديًا آخر، لكن بأغراض وهياكل مختلفة.
لا تملك الآن أي قوة إقليمية أو خارجية الموارد الكافية لمحاولة إقامة مشرع توطيدي في أي جزء كبير من العالم العربي. تُدرك العائلات الغنية في الخليج حدود قدراتها؛ وتمارس نفوذها بشكل انتقائي. يواجه النظام المصري تحديات اجتماعية واقتصادية حادة؛ مما سيدفع القاهرة إلى تركيز جهودها على الداخل في المدى القصير إلى المتوسط. تملك الجزائر والعراق الموارد المادية والجاذبية الديمغرافية اللازمين للعب دور إقليمي، لكن الأولى مستنزفة في صراعات طائفية، والأخيرة مستنزفة في عملية خلافة سياسية معقَّدة تحيط بها أشباح الحرب الأهلية. تهدف المغرب إلى تعميق صلاتها بأوروبا، وإلى ضمان صعودها مركزًا لغرب أفريقيا اقتصاديًا، وماليًا، وثقافيًا، مع الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات مع جيرانها العرب.
بغياب مشاريع توطيدية متطلِّعة، فإن العالم العربي، على الأرجح، سيتفكك. ستنجرف بعض الدول بعيدًا عن النظام العربي؛ وستنقسم بعضها بين ولاءات قَبَلية وطائفية راسخة. ستمر العديد من الدول العربية بعملية «لبْنَنَة» تتحوَّل فيها كل منها إلى لبنان جديد: دولة لديها نظام سياسي، بالاسم فقط، ودون سلطة حقيقية. ستنعزل المناطق أو المجموعات الغنية اقتصاديًا، مع الاستمرار في التشدُق بدعم السلطة المركزية. ستزيد الأطراف الفاعلة غير الحكومية تدريجيًا من قدرتها على تحدي، ومن ثم ردع، السلطة المركزية.
هل ستدمر العالم العربي أنماط التفكك هذه؟ أزعم أن هذا التفكك سيثير أفكارًا وقيمًا جديدة.
سيقع الأثر الأكبر لهذه التغيرات على الشباب العربي، خاصةً في الطبقة الوسطى. إنهم يعانون الآن من التهميش؛ فهم يخشون من الانخراط في عملٍ سياسيٍ؛ وهم كذلك بلا قيادة ويفتقرون إلى التنظيم. لكن بمرور الوقت، ستتغلَّب مجموعات من الشباب العربي على هذه المخاوف؛ وسينظمون صفوفهم في مجموعات اقتصادية وسياسية قوية. سيسعون إلى طرقٍ لتشكيل مفاهيم الاستقرار، والتقدم الاقتصادي، والتناغم الاجتماعي. سينتجون أفكارًا جديدة، وهياكل اقتصادية واجتماعية جديدة، وسيصيغون عقدًا اجتماعيًا جديدًا أيضًا.
وفي وسط هذه الصحوة الجديدة، سيرتكز الشباب العربي على نظامين فكريين جديدين يقومان على أفكارٍ مختلفة. الأول سيتبنَّاه المتديِّنون، اعتمادًا على الثقافات المُحافظة في الدول الزراعية والصحراوية الكبرى (بالدرجة الأولى مصر، والعراق، والمملكة العربية السعودية). سيدفع هذا نحو نوع جديد من الأيديولوجية الإسلامية، ربما تكون أكثر محافظةً من تلك التي ظهرت منذ انتفاضات 2011. ولأنهم شهدوا الفوضى التي أحدثتها التنظيمات الجهادية مثل تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» سيكون التيار الإسلامي هذا سلميًا، لكنه سيكون حازمًا وعنيدًا كذلك. سوف يستدعي هوية إسلامية صارمة لتكون الحل الوحيد لإنقاذ العالم العربي من الفوضى والتفكك.
ستجد مجموعات أخرى من الشباب العربي مصدر إلهامهم في الثقافات التجارية البحرية في الشام، والمغرب، ودول الخليج الصغرى. سينأى هذا التيار الليبرالي بنفسه عن الأيديولوجية الإسلامية العربية في القرن العشرين، وكذلك عن ميراث القومية العربية في العقود السبعة الأخيرة. لكن العلمانيين سيتمتعون أيضًا بالقوة. سيسعون إلى تكرار تجربة الليبرالية العربية في عشرينات القرن العشرين، لكنهم لن يضعوا الكثير من الاعتبارات لحساسيات نظرائهم المحافظين أو القوميين.
ستترتب على هذا حرب فكرية كاملة. كلا الجانبين سيحاول إنقاذ العالم العربي عبر النشاط السياسي، والعمل على تحقيق الإصلاح الاقتصادي وريادة الأعمال الاجتماعية. لكن الاثنان سيفشلان في الارتقاء إلى المثل العليا المنشودة. ستضيع الكثير من الطاقة والموارد، لكنها ستكون فترة غنية في تاريخ العرب. ستظل صراعات هاتين المجموعتين سياسية وفكرية؛ لأنهما قد صعدتا بعد فترة تدهور واضمحلال. ستصبح السياسة العربية تدريجيًا أقل عسكرةً؛ وسيقود هذا إلى حالة النضج. ستتطوَّر المجموعتان عن الشكل الذي نشأت به؛ وسيمتزجان ويتفاعلان مع بعضهما البعض.
سيكون عقدًا طويلاً، وصعبًا، ومُكلفًا. سيخرج منه العالم العربي أصغر وأفقر، لكن هذه العملية ستكون بمثابة تنفيسٍ تتحرر به المخاوف التي ظلَّت حبيسة لزمنٍ طويل. لن تكون النتيجة ديمقراطية ليبرالية على الطراز الغربي، ولا إسلامية على طراز تركيا، بل سنشهد خليطًا من الأفكار الإسلامية، والعلمانية، والقومية.
بعد مرحلة التنفيس هذه، سيكون للتيار العلماني فرصًا أقوى في التفوُّق على التيار الديني. بعض العوامل في صالح العلمانيين هي: الديمغرافية العربية، والصعود الثابت للقطاع الخاص العربي، وروح المبادرة الاجتماعية، والتغيُّرات التقنية في وسائل الاتصال والانفتاح على العالم، وأخيرًا؛ التطوُّر البطيء في فكر مؤسسات الدولة، والخطاب الذي تتبنَّاه في الثقافات العربية المحافظة.
بعد رحلة شاقة، هذه التحولات قد تجعل العالم العربي يسير ببطءٍ نحو الليبرالية. هذا قد يضع حدًا لتغييب التراث العربي، وإلى حالة الانتحار التاريخي التي يمر بها العالم العربي الآن.