يومه أتى و ذهب .. زينت الكنائس، علت الصلوات، و تناثر الدعاء في همسات المؤمنين حول اللوحات المصورة الرأس المقطوع لذلك الرجل الذي قتل قبل الفي عام.

قصة يوحنا المعمدان، او يحيى، مثيرة. فيها خطوط التقاء مع حياة المسيح. فيها رسالة خاصة بالرجل. فيها دراما سياسية، دراما مشاعر إنسانية، فيها غضب و غواية، و فيها لحظة القتل تلك، واحدة من آبار المشاعر في قصة المسيحية.

لكن المعنى الحقيقي لقصة يوحنا المعمدان، قصة يحيى، يذهب أبعد كثيراً من احداث تُحكى عن ما قد جرى في فلسطين تلك الأيام البعيدة.

هناك معنى مستقى من الكاثوليكية، و إن كان خارج عن قوامها الأساسي .. في هذا المعنى، يوحنا او يحيى هو الداعي الأول للتغيير المهول القادم: رسالة المسيح .. في هذا المعنى، يوحنا رسول لمن سيستمع، مبشراً بالحضور السامي الأتي. يوحنا هنا هو الفكرة الأقرب للمسيح، هو المُمهد للبركة التي مثلها المسيح. و لذلك، فإن مكانه في الهيكل الكاثوليكي تحت المسيح، لكن فوق الأباء المؤسسون مثل بيتر (بطرس) و بوول (بولس).

لكن هناك رؤية أخرى لمعنى يوحنا/يحيى. فيها الرجل، و إن كان له علاقة خاصة بالمسيح، الا أن له رسالة متميزة .. رسالة أخذت منها الرسالة السيوعية .. رسالة كان لتعاليمها دور رئيس في مهمة المسيح على الأرض ..

هذه الرؤية أخذت طريقين:

الطريق الأول تاريخي .. هنا، المسيح و يوحنا (او يحيى)، كلاهما داعيتان، البعض قد يقول مصلحان، البعض قد يقول غير ذلك .. لكن النقطة الرئيسية هنا ان الاثنان حلقتان في سلسلة من الدعاة الذين حاولوا تغيير البنيان اللاهوتي اليهودي في فلسطين منذ الفي عام. و فقط حيث أن يوحنا و دعوته جاءا قبل المسيح و رسالته، فقد كان السبق ليوحنا .. و للسبق تأثير.

الطريق الثاني فكري او لاهوتي – و لا شك أكثر إثارة للعقل. في هذا التصور رسالة و تعاليم يوحنا (او يحيى) لهما أهمية مهولة أخذا الرجل و قيمته أبعد من الارتباط التاريخي بأي رسالة أخرى. في هذا التصور، يوحنا، في ذاته الخاصة، تعبير الهي.

تلك الرؤية خارجة من تصور أكبر يرى شعلة الهية في كل انسان. تصور يرى كل انسان حاملاً داخله شمس قابلة للسطوع و للافول، كل حسب بصيرته .. في هذا التصور، الشمس الداخلية وهج الهى يربط النور العاطي للحياة الداخلية بالشمس الخارجية، النور العاطي للحياة على الأرض .. في هذا التصور، الشمس (sun) الداخلية تجعل من كل انسان احيا وهج تلك الشمس (son) ابنا للوجود الإلهي. لذلك، فان ذلك التصور يرى في يوحنا، كما يرى في المسيح، شمسا، ابنا، مقدساً.

لكن الشموس تختلف في قوة انارتها، خاصة في لحظات الفجر من أيام الإنسانية المتعاقبة، اللحظات التي تظهر فيها امام الإنسانية فرص الاستنارة بشموس معارف، بدفء كوني .. في هذا التصور، يوحنا (يحيى) كان واحد من تلك الشموس، واحد من هؤلاء الأبناء المقدسين.. رسول برسالة ذات معنى خاص.

لكن ما هو ذاك المعنى؟

في هذا التصور رسالة يوحنا موجهة للصفوة الروحية .. رسالة رقى بالوجود الإنساني، تتعدى قوى الجذب نحو القاع، نحو الخطايا .. رسالة نور تخرج بالإنسان المدرك الواعي المستيقظ من الظلم و الظلمات .. أخذة ذلك الانسان المدرك لكينونته الى وحدانيه توحِده مع الوجود الاسمى، الإلهي. و في هذا التوحد، تفتح زهور قد ارتوت من نور الإشراق الداخلي.

هذا الطريق الثاني، و ما فيه من معنى، ليس مجرد كلام. انه مرور من بوابة ضيقة و وراءها طريق ليس بالسهل، ينقلا الانسان من مستنقعات الهوة في الضعف الى جمال (و قوة) ادراك الشعلة الإلهية داخله .. و تدريجيا، اذا استمر في عبور البوابة الضيقة و السير على الطريق الخارج منها، الى تحقيق نورانية كيانه بأكمله (و في ذلك ادراك الجنات العليا).

هذا الطريق للصفوة الروحية، لأنه، بصعوبته، ليس للعامة .. انه لهؤلاء الذين يعملوا جادين على توسيع فهمهم، على تقوية شخصيتهم، على تعميق حكمتهم، و مع كل ذلك، يعملوا على ارادتهم (و هي من الخزين الفكري و الجسدي) .. كل ذلك، للاستمرار في عبور البوابة الضيقة، و السير على الطريق الخارج منها.

في هذا التصور، منطقي جداً ان يأتي يوحنا (يحيى) زمنياً قبل المسيح .. ذلك انه في نفس التصور، فإن المسيح نفسه تعبير الهي أخر عن ذلك الفهم للوحدانية، للالتقاء الإنساني مع الوجود الاسمى .. تعبير لتفتح تلك الزهرة الإنسانية التي ارتوت من نور الإشراق. هنا، يوحنا (يحيى) تعبير وضَح الطريق، جسد احتمالية الارتفاع و الرقي الإنساني الى ملاقاة الوجود الاسمى. بمعنى انه اذا كان المسيح جَسَد روح تلك الملاقاة، فإن يوحنا (يحيى) جَسَد ادراكها .. او، اذا كان المسيح جَسَد اشعة الشمس (sun) الممثلة لايجاد الحياة على الأرض، و عليه كان (sun) او (son)، فان يوحنا (يحيى) جَسَد ادراك أهمية ذاك النور .. يوحنا جَسَد رؤية النور.

في هذا التصور، من الطبيعي ان يتم قتل يوحنا/يحيى، نتيجة مؤامرات سياسية، نتيجة شهوة رجل عجوز، نتيجة غضب فتاة رقصت عارية امام ذاك العجوز، طالبة رأس المعمدان، رأس يحيى … الرمزية هنا بالغة الدقة .. النقطة الجوهرية ان الضعف الإنساني، السقوط الإنساني، يقتلا القدرة على ادراك احتمالية الرفعة الإنسانية، يقتلا القدرة على رؤية النور .. و الرسالة الأعمق هي ان كل مظاهر عدم التحكم في النفس، كل تعبيرات الضعف و السقوط الإنساني، تأخذ الفاعل الى مستنقعات وطية فيها غرق، ظلم لنفسه، و ظلمات لروحه .. فيها إطفاء للشعلة الإلهية .. و الحاصل، انه مع السقوط في عدم التحكم في النفس، في ظلم النفس، في الظلمات، يُعمي الانسان نفسه .. يُضل روحه .. يقطع رأس يوحنا .. يقتل يحيى.

في هذا الفكر، موت يوحنا – قتله – عبَر بوضوح عن كيف ستُفهَم الرسالة اليسوعية. ذلك انه اذا كانت الشعلة الإلهية مضمورة في ظلمات الضعف و السقوط الإنساني، فمن الطبيعي، و المنطقي، ان البشرية تخطئ فهم طبيعة رسالة المسيح.

لكن، ما معنى ان الرسالة السيوعية قد أخذت من رسالة يوحنا (يحيى)، و أن رسالة يوحنا كان لتعاليمها دور رئيس في مهمة المسيح على الأرض؟

في هذا التصور، هناك فكرة دائرية في الكون .. بمعنى انه اذا كان يوحنا (يحيى) مَثَلَ الادراك الإنساني للشعلة الإلهية داخله، مَثَلَ ادراكه لطبيعته العليا، و من ثم عمله الدؤوب للرقي بنفسه الى احتمالياتها الكبرى، فانه، في نفس الوقت، تلك الشعلة الإلهية، الوجود الاسمى نفسه، يحتاج الى ذلك العمل الإنساني، يحتاج الى ذلك الادراك، الى ذلك العمل الدؤوب، الى ان يلاقيه على الطريق .. أو، بأسلوب أخر، اذا كان يوحنا (يحيى) مَثَلَ تحضير العقل الإنساني لفهم المعنى الحقيقي لرسالة المسيح، فان رسالة المسيح ذاتها احتاجت لذلك التحضير في العقل الإنساني. بدونه، الرسالة لا تصل .. و المعنى الأبعد هنا، أن تَفتُح الزهرة الإنسانية، امتلاء النفس بالنور، الذي يأتي من ادراك الانسان الشعلة الإلهية داخله، كل ذلك لا يحدث فقط داخل الروح الإنسانية، بل ان له أصداء في الكون - أصداء يريدها الكون.

تلك الفكرة بالغة القدم في الفهم الإنساني. انها ارتباط الواحد بالكل (كل ما في الوجود)، و ان الكل ذو تعبيرات لا تعد و لا تحصى، واصلة الى (و في) كل واحد .. انها أيضاً الفكرة المصرية القديمة بالوهب القادم من السماء (و فيه الحكمة الإلهية) و امتزاجه بعملية الخلق على الارض ( و فيها جوهر النمو و التطور و الارتقاء) .. و بالتقاء الاثنين، يكون الكمال في الواحد (الانسان) و في الكل (الكون) .. او كما وصفها ارسطو، بهذا الالتقاء يكون العقل و العاقل و المعقول واحد … هنا، في ذلك الالتقاء يكون توسع الكون، أكثر و أكثر، حتى لحظة النهاية، لحظة الوصول الى اللانهائي الذي هو لحظة العودة الى نقطة البداية، او على الأقل نقطة البداية التي يمكن للعقل الإنساني ملامسة اطارها الخارجي .. و بين نقطة البداية الحقة و تلك التي يمكن للإنسان تصورها، بحور فيها غرق للادراك الإنساني .. انها نقطة العودة الى العقل الأول، الى انبعاثاته الأولى … الى الكون البادئ حينئذ توسعه من جديد .. و مع ذاك يأتي البعث، خلقاً جديداً.