في مذكراته، الصادرة حديثاً، يبدو داڤيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا السابق، و كأنه رجل جاء طالباً الغفران، ليس من الناس (الشعب البريطاني)، ليس من حزبة (المحافظين)، و ليس من الملكة (إليزابيث الثانية)، و لكن من التاريخ.

الرجل يضع اعتذاره واضحا، معترفاً فان قراره اجراء استفتاء على عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي حمل في طياته، أكثر بكثير مما رآه هو وقتها، في ربيع ٢.١٦.

داڤيد كاميرون لا يعتذر عن نتيجة الاستفتاء، بالرغم من اعترافه انه تصور انها ستاتي لصالح البقاء داخل الإتحاد. في حقيقة الأمر، الرجل، مثله مثل مجموعات واسعة من طبقته (و هي قريبة جداً من الأرستقراطية الإنجليزية) كانت دائماً و لا زالت، تشعر باستقلالية تامة عن المشروع الأوروبي، و هو من قبل و من بعد، فرنسي-ألماني. كما انه، أيضاً مثله مثل مجموعات واسعة من طبقته، لا يرى انهيار او حتى تراجع في الاقتصاد البريطاني نتيجة الخروج من الاتحاد الأوروبي. اقتصاديا، كاميرون ينتمي الى تيار يتوقع فترة قصيرة من الاضطرابات (خاصة في توفر بعض المنتجات الأوروبية) تنتهي بسرعة بعد ان تستوعب الصناعات المختلفة اللوچيستيات الجديدة لفترة ما بعد الخروج من الإتحاد الأوروبي.…الاعتذار الذي يقدمه كاميرون هو عن عدم تصوره للتيارات الفكرية و الملفات الاجتماعية التي فتحها قرار الخروج.

هناك قول قديم في السياسية البريطانية: أن روساء الوزارات ينشغلون بالحكم و يفوتهم تغير الصورة العامة…الأمثلة كثيرة، و أشهرها في العصر الحديث، فشل مارجريت تاتشر (رئيسة الوزراء االبريطانية الأهم منذ عصر ونستون تشرشل) في الإحساس بتذمر الشارع البريطاني من استمرارها في الاتجاه لليمين سياسياً و اقتصادياً، داخلياً و خارجياً. و لعل صورة المرأة الحديدية و عينيها مليئة بالدموع و هي تخرج من مقر رئاسة الوزراء بعد أن أسقطها نواب حزبها، تبقى وعيداً لأي سياسي بريطاني.

داڤيد كاميرون ليس مارجريت تاتشر، و للحق، فإن الرجل في مذكراته لا يحاول ان يصوِر نفسه على ما هو أكبر من حجمه. بالرغم من ذلك، فهو السياسي الذي قاد حزب المحافظين لكسر سيطرة حزب العمال على السياسة البريطانية لتقريباً خمسة عشر عاماً. كما انه السياسي الشاب، القادم من عالم العلاقات العامة، الذي استطاع هزيمة عملاق من عمالقة الفكر السياسي الحديث في بريطانيا: جوردون براون. أي أن كاميرون جاء بلحظة وعد لحزب المحافظين، و الى حد ما، لقطاعات انجليزية على قمة المجتمع رأت في حكم حزب العمال الطويل (حتى و إن كان في أغلبه تحت رئيس وزراء ليبرالي الهوى هو توني بلير) لحظة تاريخية قد طالت و حان وقت رحيلها.

و من وجهة نظره – و له الحق في الكثير منها – فإنه (كاميرون) – مع حكومته - قد حقق الكثير، خاصة و ان حزبه قد وصل الى الحكم و تداعيات الأزمة المالية العالمية التي بدأت في ٢٠٠٨ ما زالت ضاربة في الأسواق. و عليه، فالرجل يرى في الكثير مما حققه داخلياً (بالذات من إصلاحات مالية) نجاح مهم و ذو كلفة سياسية، و في لحظة صعبة، خاصة اذا وضعنا في الاعتبار انه، بالرغم من هذه الصعوبات، فإن أداء الاقتصاد البريطاني في فترة حكومة كاميرون كان أفضل كثيراً من أداء تقريباً كل الاقتصاديات الأوروبية الكبرى.

مع كل ذلك…و مع كل الصفحات في الكتاب التي تشرح و تُفسِر، يبقى ذلك الفشل الكبير الذي يعترف به كاميرون، و الذي يعتذر عنه و كأنه ذنب. و لعل كلماته تبدو أحياناً و كأنها تبرير في اعتراف كنسي: “كل ملامح الشعبوية بدت و كأنها تجتمع علينا…صعود الsocial media، الظهور القوي للأخبار الكاذبة (fake news)، القلق من العولمة في الأقتصاد…عوامل مختلفة، قوية كأنها تتأمر علينا.”

الفشل إذاً في تصور حجم التباعد الاجتماعي الذي سيخلقه قرار الخروج (البريكسيت). الفشل في تصور عمق الغضب الذي تخزن لسنوات لدى قطاعات واسعة من البريطانيين رأوا مستقبلهم أسوأ من حاضرهم الذي هو أسوأ من ماضيهم. الفشل في تصور ما الذي يعنيه ان يفرض اختيار إنجلترا الخروج من الاتحاد الأوروبي مستقبل معين على إسكتلندا و أيرلندا الشمالية التى صوتا للبقاء داخل الاتحاد. الفشل في تصور قنوات حوار ممكنة في أجواء كتلك. و أخيرا، و ربما النقطة الأهم، الفشل في ادراك انه، حتى اذا كان مستقبل بريطانيا أفضل خارج الاتحاد الأوروبي (و هي رؤية لها ما يؤيدها) فإن حجم التنافر الذي ولده قرار الاستفتاء بلا تحضيرات سياسية و اجتماعية، يبقى ذنب سياسي و ليس مجرد خطأ، لأن تبعاته الاجتماعية ستكون قاسية على بريطانيا. من هذه الناحية، فإن داڤيد كاميرون قد وقع في ما هو اكثر من مجرد ان فاتته الصورة العامة. لقد فاته ان يدرك حجم و مسؤلية قراره. و كلماته تقول انه اكثر من يدرك إحتياجه لغفران التاريخ.