قصة هذا الرجل فيها الكثير من الحزن .. لكن المثير للتفكير هو، تأثير الدراما في حياة رجل على مجريات تاريخ بلد … حدث ذلك كثيراً في التاريخ … لكن، تنظر لوجه هذا الطفل و تفكر: ماذا لو تولى العرش و هو أكبر من ١٥ سنه .. ماذا لو كان الإطار الأسري حوله أرق … ماذا لو وجد من وجه و رعى عقله و قلبه بعقل واعي و قلب عارف … ماذا لو كان الظرف العالمي وقتها أسهل … لعل … لكن التاريخ جرى على ما جرى عليه. و وجد ذلك الفتى نفسه وحيدا، في جَسَد كَبُر و احتواه الشباب، لكنه، العقل و الوعي، بقيا بلا رعاية، بلا توجيه، و غالبا بلا حب حقيقي له و به.

لعل نهاية حياته مفتاح فهمه … الرجل مات بعيدا عن اهله، أبنائه في مدارس في سويسرا .. أصدقاءه في أيام مصر تركوه، حتى البعض الذين خرجوا من مصر بعد ١٩٥٢ .. و السيدة التي كانت في حياته في تلك الشهور الأخيرة في جنوب ايطاليا، لم يُتَح لها ان ترى من دنيا الثقافة او العلم او الادب او السياسة او أي شيء أخر، الكثير.

هناك ابيات لابراهيم ناجي يقول فيها: هات قيثاري و دعني للخيال، و اسقني الوهم و علل بالمحال، و دع الصدق لمن ينشده، الحُجى خصمي، باغمر بالضلال.

لعقلي، تلك الابيات القصيرة من أصعب تعبيرات ذلك الشاعر الحزين، لانها أخذة القارئ الى عمق حزنه، و الى حيث تحول الحزن الى قبول بالضياع، الى اختيار الضياع.

في تلك االسنوات الأخيرة في حياة فاروق، كان هناك الانغماس في المُتَع، لكنه الضلال بمعنى بُعد المتعة عن الراحة، افتراق ما ينغمس فيه الجسد عن ما يرق له القلب و يحتاجه العقل و يرتفع به الوعي .. و ذلك نوع من الانتحار الروحي.

فاروق كان ذكياً،. و الظاهر انه لم يكن فظا .. على العكس، بعض من عرفوه في سنواته الأولى على العرش و كتبوا فيما بعد، رسموا صورة شخصية فيها طاقة و فيها قدر واضح من الذكاء الخام، القابل للثقل.

لكن الثقل لم يجئ .. على العكس، جاء التملق من البعض، التلاعب و الاحتيال من البعض، الابتعاد و التخلي من البعض، الاستخفاف من البعض، و الغواية من مَن بقى.

كثيرون حاولوا تفسير فاروق لنا .. د. لطيفة سالم كتبت عن العصر بروية مؤرخ. هناك الوقائع و هناك تحليلات، و معهما تصورات عن التأثيرات على الرجل، لكن تلك التصورات بقيت مُقيدة بأطر الكتابة الاكاديمية .. أستاذ محمد حسنين هيكل ربما أعطى فاروق أكثر مما توقع أغلب القراء. فيما كتب هيكل، هناك تفهم و احيانا تعاطف. لكن في النهاية هيكل كتب ليبرر، على الأقل ليقدم رأيه في حتمية سقوط النظام الملكي الذي مثله و قاده فاروق. لذا، فمع التفهم و التعاطف، كانت هناك الاإدانة .. كريم ثابت كتب، و لعل تلك الرواية عن فاروق هي الأهم، فصاحبها كان صديقا مقربا من الملك. كما ان كريم ثابت كان قريبا فكرا و ثقافة و طبقة من فاروق، و لذلك فهو القادر على فهم جوانب من عالمه أكثر ممن لا ينتمي الى ذلك العالم. كما ان كريم ثابت كتب كشخص كان هناك مع فاروق، رأى و شاهد و عاش ما كتبه. كل ذلك يجعل ما كتبه مذكرات او شهادة، و ليس تأريخ اكاديمي او كتاب نابع من وجهة نظر سياسية مضادة حتى و إن كانت متفهمة .. لكن كريم ثابت كان، في ما كتب، شديدا على فاروق. و الشدة هنا ليست تحليل لمواقف، بل احكام (بعضها يبدو قاطعا) على الشخص. و لعل الواضح ان مقربين من فاروق في وقت ملكه كانوا هناك لاسبابهم و غالبا لم تكن في هذه الأسباب مشاعر احترام او صداقة حقة لذلك الفتى الذي وجد نفسه على عرش مصر.

هناك من كتبوا عن فاروق في الغرب. من صحفيين (اغلبهم أميركيون) وجدوا مادة مثيرة لقراءهم في ملك شاب، سواء على عرش واحدة من أهم، و وقتها أغنى، ممالك الشرق، او في منفى أوروبي في ظاهره الجمال و الغنى .. الى مؤرخين اهتموا بلحظات السقوط البطئ للامبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية، و قد كانت مصر واحدة من المناطق التي تجلى فيها ذلك السقوط .. لكن النوع الأول من الكتابة لم يعنى بفاروق. فقط أراده كاريكاتور للطيش و للتخمة الجسدية و العقلية .. آي أراده ماده تُباع لقراء يريدون الإثارة و ليس الفهم. النوع الثاني من الكتابة أيضا لم يعنى بفاروق، لانه بدى في أغلب الأوقات مفعولا به و ليس فاعلا في مجريات السياسة التي تهم بريطانيا في الشرق الأوسط. و لعل الأصل الذي بنى عليه الباحثون عملهم كان المراسلات البريطانية (خاصة لوزارة الخارجية) و فيها، في الفترة الهامة طيلة الأربعينات، فاروق اما فتى ضائع او مشروع ديكتاتور شرقي. و في الحالتين، الشخصية باهتة.

بعض من عرفوه في المنفى تكلموا، لكن في علمي لم يكتبوا (على الأقل بشكل منظم وجد طريقه الى نشر جاد). مثلا، الفتاة التي رافقته في الشهور الأخيرة – و قد كانت وقتها فتاه لم تصل بعد للعشرين – تكلمت، و كانت كلماتها جميلة .. عن هدوء فاروق في التعامل، على الأقل معها .. عن ولعه بالحياة و متعها (و ليس في ذلك عيب) .. لكن ما قالته يبقى ملاحظات سريعة خارجة من ذكرياتها عن علاقة (لم تكن طويلة) و قد دخلتها منذ ما يقرب من خمسين سنة .. لذلك، مع ما تحتويه من ذكريات، تبقى ما قالته تلك السيدة ملاحظات غير دالة عن عمق الرجل.

ليدي كيلرن – زوجة السفير البريطاني الأشهر في مصر قبل الاستقلال: مايلز لامبسون – تحدثت امام البعض (و كان لى حظ ان استمع مباشرة منها). لكننا هنا امام ذكريات تبعد اكثر من ستين سنة، و الأهم، من سيدة كانت في قلب المكان (بيت و عقل لامبسون) الذي رأه فاروق كعدو. كما ان الرجل الذي رافقته ليدي كيلرن رأى فاروق كشخص بلا قيمة لا يستحق عناء الفهم. و لذلك فان ما قالته السيدة، و لم يكن كله سيئا، يؤخد ببعض الملح (كما يقول الانجليزيون).

من كل ذلك، يبدو فاروق وحيداً، ليس فقط في حياته، لكن أيضا في التاريخ.

لعل من أكثر ما يدل على وحدة فاروق و اختياره البُعد (ربما بالوعي الداخلي البعيد عن الادراك المفكر) هو ان أقرب الناس اليه لم يقولوا عنه الكثير. بعض بناته تحدثوا. ابنه (قانونياً، ملك مصر الأخير) تكلم. لكنهم جميعاً قالوا القليل و كان أكثره عن دوامات حزن طاحت في تلك العائلة، لكن بعد أن مات فاروق. في حياته، كان هناك أمن في الحياة، لكنه هو، الأب، كان بعيدا … و لعل هناك عامل أخر أضعف حكايات الأبناء، و هو اللغة. ذلك ان ما قالوه كان بشكل رئيسي يهم مستمعون عرب، و كان السائلون صحفيون عرب .. لكن الأبناء بعد عقود طويلة من الحياة في الغرب، و خاصة في الهدوء السويسري، كانوا هم أيضا قد ابتعدوا كثيرا، ليس فقط عن اللغة العربية لكن ايضاً عن روح المكان الذي كان لقصة فاروق فيه تأثير (مصر). لذلك جاءت كلمات الإبن و البنات قليلة .. و ربما قالت العيون و العبرات الكثير، لكن تلك اللغة ليست للتاريخ، و ليست مادة صالحة لفهم أخر ملك حقيقي لمصر.

يبقى التأثير .. ماذا كان تأثير فاروق في تاريخ مصر الحديث … هنا يُمكن النظر الى المشروع الأكبر الذي ورثه: مشروع محمد علي باشا و ابنه إبراهيم باشا و الذي طوره الحفيد، إسماعيل باشا. فاروق جاء الى العرش على أساس هذا المشروع. و اذا كان هذا المشروع قد فقد الجزء الأكبر من قوة اندفاعه في النصف قرن الذي فصل إسماعيل عن فاروق، فإن المشروع بقى الأساس الحقيقي لشرعية حكم هذه العائلة. و اذا كان فؤاد (والد فاروق) كان اختيارا ثانيا (و هناك قول، ثالثاً) لبريطانيا بعد ان عزلت من سبقه على عرش مصر، فانه بالرغم من ذلك يبقى ابن إسماعيل، و اذا كان فؤاد لم يُبدي أي اهتمام حقيقي بمشروع التقدم الذي قادته عائلته، فان فاروق، و قد جاء الى العرش بدون تدخلات اجنبيه و بدون صراعات داخل العائلة و في أوضاع بدت مؤهلة لانطلاقة جديدة، كان في نظر كثيرين، وريث محتمل لفكر إسماعيل (مع التسليم بأن الظروف غير الظروف).

لكن فاروق لم يعطي أي قوة دفع للمشروع الذي حمله اجداده. هنا نرجع لنقطة البداية. من جلس على عرش مصر في منتصف الثلاثينات كان أقرب للطفوله منه للشباب، و كان الفتى الصغير في احتياج الى حب و رعاية، لم يحصل عليهما بعد أن أصبح ملكاً متوجاً على أهم و أغنى ممالك الشرق وقتها – و لعله لم يحصل عليهما حتى قبل ذلك .. كما انها سنوات قليلة جداً التي قضاها ملكا حاكما للبلد قبل ان تنشب الحرب العالمية الثانية، و قد استدعت ان رجعت بريطانيا حاكمة فعلية – و بوضوح – لمصر، التي أصبحت غصب عنها مسرح مهم لتلك الحرب.

من خلال رؤية باردة للتاريخ، فاروق لم يقدم شيئا. لكن من خلال رؤية إنسانية، ما الذي يمكن لفتى في مقتبل العمر و بلا آي تجربة حياتيه، ان يقدمه لمشروع تطوُر واسع الابعاد و كبير الطموح، خاصة اذا كان ذلك الفتى، الى حد بعيد، منزوع السلطات في ظل حرب عالمية.

من ناحية التأثير، هناك زاوية أخرى: زاوية مشروع التحرر من بريطانيا. هنا فاروق جاء غريباً. بمعنى ان هذا المشروع كان دائماً بعيداً عن القصر الملكي في مصر. ذلك ان كل من جلسوا على هذا العرش منذ بدء الاحتلال البريطاني لمصر في نهايات الثمانينات من القرن التاسع عشر، كانوا اما من مؤيدي الاحتلال او ذوي رؤية ترى مصر في إطار عثماني. لكن فكرة استقلال مصر التام جاءت دائماً من حركات وطنية، اما خارجة من العسكرية المصرية (و اهم الأمثلة هنا، احمد عرابي باشا) او من الليبرالية المصرية (الأجزاء القليلة التي تستحق وصف الليبرالية – و أهم الأمثلة هنا، سعد زغلول باشا). كما ان والد فاروق (الملك فؤاد) كان لا شك معادي لفكرة السيادة المصرية في معناها الدستوري و الشعبي (أي في وجود دستور فوق الملك و في وجود برلمان ذو سلطة على الأقل موازية لسلطة القصر) .. لكن فاروق، ربما على عكس كل ملوك اسرة محمد على، جاء باحتمالية تقارب مع هذا المشروع. ذلك انه كان بحكم السن، بعيد عن آي منافسة من قيادة الحركة الوطنية التحررية وقتها (حزب الوفد) و بلا آي تجربة شخصية تضعه في مواجهة مع هذه الحركة. كما ان الجو العام في مصر وقتها اعطى الملك أكثر ما يمكن ان يطلبه طموح فتى في الخامسة او السادسة عشر من العمر (و حتى و إن كان جالسا على عرش أعظم ممالك الشرق) .. لكن فاروق لم يقترب من تلك الحركة. و لعل الغريب (او المحزن) انه كلما كبر في السن كلما زاد ابتعاده عن التربة التي كانت تخرج (و تتجدد) منها جذور تلك الحركة.

مع كل ذلك و بعده، آي وقفة مع شخصية في التاريخ يأتي معها سؤال عن أهمية فكرة الشخص (أي شخص) في التاريخ .. بمعنى، هل نحن مع المدرسة الفكرية القائلة بادوار الابطال في التاريخ – و الابطال قد يُعمروا و قد يهدموا، قد يأخذوا اوطانهم الى الامام او قد يتسببوا في انهيارات تقضي الأمم بعدهم عقود تحت الأنقاض .. أي ان فكرة البطل تعني دور حاسم لشخص او اشخاص في لحظات معينة في التاريخ، بغض النظر عن النتائج النهائية لادوارهم .. في المقابل هناك فكرة أخرى، نقيضة، ترى حتميات تاريخية تفرضها مقدمات و تطورات اجتماعية و إقتصادية تأخذ الأمم الى نتائج معينة .. هذا نقاش طويل، لكن الفكرة مهمة لأن واحدة تُحَمِل الأشخاص المؤثرون (الابطال) مهام ثقيلة و تضع عليهم مسؤليات جسام، بينما الأخرى توزع المسئولية على المجتمع بأكمله و ترى ان الاختيارات الفردية (على مر عقود) تتراكم لتكون اسباب لابد ان يكون لها تنائج.

اذا أخذنا هذه الأفكار الى فاروق، يأتي السؤال عن مسئوليته عن (تقريبا) العقدين الذين حكم فيهما مصر، و عن اذا ما كان ممكنا له أن يُغير الاتجاه الذي اخذته مصر بعده .. ام ان تراكمات تاريخية على مر عقود (و ربما قرون) كانت ذاهبة بمصر نحو طرق أخرى و تجارب جديدة، بغض النظر عن فِعل الجالس على العرش في هذين العقدين من الزمان.

اذا سرنا مع رؤية ان دور البطل حاسم (او على الأقل في غاية الأهمية)، للأسف لابد لنا في حالة فاروق من العودة الى الرؤية الإنسانية، الى رؤية طفل فاقد للحنان و الحب و التوعية تحت كل مظاهر الملكية و الفاظ “صاحب الجلالة” و “سيدنا”.

لكن ربما الأكثر حزنا في قصة فاروق ان شخصيته ضاعت في التاريخ حتى في فِكْر هؤلاء الذين رأوا فيه تمثيلًا لعصر جميل مضى، او عصر تصوروه في مخيلتهم جميلاً… بمعنى، ان حتى هؤلاء الذين يترحمون دائماً على مصر الملكية، عندما يضعون صور فاروق كرمز لذلك العصر و ما كان فيه من جمال (متغاضين على ما كان فيه من غير ذلك) يضعون صورة الرجل كرمز غير عابئون بالرجل نفسه: أفكاره، حياته، اختياراته بعد ان كَبُر، غير عابئون حتى بمآسيه (و ما أكثرها). لذلك يبقى فاروق (الانسان) غريبا حتى في الدوائر التي تقول انها تحبه و تعظِم أيامه.

فاروق (غالباً) اختار ان يجلس مع قيثارته، و أن يذهب مع سحب الوهم، متعللاً بالمحال .. لعل تأثيره المحدود في تاريخ مصر الحديث يجعل المؤرخين يتركونه لشأنه .. لكن الشخصية التي أحاطتها الاحزان تبقى جاذبة لدراويش تاريخ مصر .. و تبقى البراءة في عيني هذا الطفل باعثة في العقل كلمة: ماذا لو.