في الـ16 من فبراير/شباط عام 1778، بعد أيامٍ من عودته إلى باريس للمرة الأولى عقب نَفيِه الذي دام قرابة 20 عاماً، استقبل فولتير السفير الأميركي إلى فرنسا: بنچامين فرانكلين. ولمَّا كان الزائر الأميركي قد أحضر حفيده معه، طلب من فولتير مباركة الصبي. لمس فولتير رأس الولد وهمس: “الله والحرية” – بالإنجليزية.

لكن ماذا كان يعني بلفظ الجلالة؟

كان فولتير، لمدَّة نصف قرنٍ قبل هذه المقابلة، بعيداً تماما عن الفكر الكنسي، سواءٌ ذلك للكنيسة الكاثوليكية في فرنسا، أو البروتستانتية في پروسيا. كان رأيه أن اللاهوت، كما تتصوره الكنائس، في أفضل التقديرات، صورة شديدة البساطة لمفهوم أعمق و أوسع كثيراً. كانت المسيحية في رأي فولتير، وغيره الكثير من الفلاسفة السالفين له والتابعين، حلقةً في سلسلةٍ عتيقةٍ من التواصلات بين المقدَّس والبشري. فكان إلهه، إلى حدٍّ كبيرٍ، هو إله الفلاسفة القدماء، خالق الكون الذي ينخرط مع خلقِه، الذي تملأ تجلِّياته أرجاء الكون، الكون الذي هو في حدِّ ذاته منخرط مع الإله، ربما في سَيلٍ من الأفياض، أو كما وصفه أفلاطون: الروح العقلانية للبشر، المتجانسة مع “العقل الأسمى”، و المتشبِّه بـ”حكمته القدسية”. واتِّباعاً لتلك السلسلة الطويلة من المفاهيم التي طرحها عشراتٌ من روَّاد الفكر عبر التاريخ، كان المقدس، في فكر فولتير، مترفعًا عن التشخيص، ناهيك عن الأنسنة.

و قد كان له في بنچامين فرانكلين حليف. فمثل الآباء المؤسسين الآخرين لأميركا، لم يعتنق فرانكلين المفاهيم اللاهوتية العقائدية التقليدية، ولم يكن مؤيِّداً لترويج لتلك المفاهيم بين المجتمع. بل على العكس، كان رأي فرانكلين، أيضاً كغيره من الآباء المؤسسين لأمريكا، أن علاقة المجتمع بالمُقدَّس مسألةً جوهريةً يجب على وطنه الشاب، الولايات المتحدة، أن يكون مثالاً يُحتذى به في تطبيقها تطبيقاً صحيحاً.

يأخذنا هذا إلى الحرية

مع أن فولتير كان من أشدِّ أنصار الحريات في القرن السابق للثورة الفرنسية، و يمكن أن يُقال إنه هو من وضع مصطلح “حقوق الإنسان”، فقد ارتقى مفهوم فولتير عن الحرية فوق كونها مجموعة من الضمانات الاجتماعية والسياسية. كانت الحرية (وما زالت) عنصراً أساسياً للحالة الطبيعية التي من دونها يكون وجود الإنسان نفسه ناقصاً. فوفقاً لهذه الرؤية، الحرية مكوِّنٌ حاسمٌ لجهود الإنسان نحو إدراك معنى وجوده والغرض منه، والتقدُّم بالمجتمع الإنساني. وغياب الحرية إنهيار لأي مجتمعٍ، بصرف النظر عن إنجازاته الثقافية ونجاحه الاقتصادي.

والمقصود بـ”الإنهيار” هنا هو الانعدام التامُّ لجدوى مساعي أي مجتمعٍ يحقِّق أيَّما ثرواتٍ ماديةٍ، وفي سبيل تحقيقها لا يضحِّي فحسب بحرية شعبه، لكن الأدهى أنه لا يستوعب مدى خطورة تلك التضحية، بل و في الأغلب لا يدرك أنَّ تضحيةً قد بُذِلت من الأصل.

وفقاً لهذا الفهم، فإنَّ الحرية حرية الأرواح: روح الفرد وروح المجتمع…ولا يتسنَّى أبداً بلوغ الثانية دون تحقُّق الأولى. فوفقاً لفولتير، وكذا جميع الآباء المؤسِّسين للمشروع الأميركي، تكمن حريَّة المرء في موازنة حريته للسَّعي وراء مهمته في الحياة، بالمسؤوليات المصاحبة لتقبُّل القواعد الخالدة لله (كما فهم فولتير، ومعه الآباء المؤسِّسون لأميركا، كينونة الله).

كان هذا التوازن هو ما قصده فولتير حين جمع بين “الله” و”الحرية” أمام زائره الأميركي. على الإنسان أن يحقِّق هذا التوازن.

ولكن كيف؟

كان فولتير تحرُّرِياً بإمتياز. وقد انغمس في الملذَّات الحسِّية بدرجةٍ ، وفي علاقات، كانتا تروِّعا المجتمعات الفرنسي والألماني والسويسري (و الأول بالذات كان، وما يزال، لا يُروَّع بسهولةٍ). من ثم، لم يكن هذا رجلاً يذكر الإله بالتوازي مع الحرية لمجرِّد التشديد على فكرة “عيش حياةٍ دينيةٍ صالحةٍ”. بل هنا، الرابط بين الله والحرية هو اختيار الإنسان لإدراك ذلك التوازن، وفي الوقت ذاته، عيشه وفقاً لذلك الفهم الناضج للربِّ. ولذا، فإن التوازن يتوقَّف على اختيار الإنسان لنظرته إلى نفسه ولتحقيق تلك النظرة إلى نفسه في حياته، في نفس الوقت الذي يحاول الإحاطة علماً بالله و التماهي في خلقه و إفاضاتة.

يلمِّح فولتير إلى شيءٍ كان يسعى إليه طوال حياته: تقديم، و اكتساب القبول، لفكرة أن الإنسان ذو الأخلاق حقاً ليس هو من يعيش حياةً يعتبرها الآخرون حياةً أخلاقية، بل إنه من يختار أن يكون حراً على المستوى الفكري، بالذات في إذعانه إلى، ما تعتبره حرية إرادته هو، مُقَدَّساً. بحسب هذه النظرة، الجوهر الحقيقيُّ للأخلاق - التي تؤدِّي بالإنسان إلى كلٍ من: إدراك الذات و ارتقاء الروح - هو هذه الصورة العُليا للحرية.

يُقال إن بنجامين فرانكلين قد تبسَّم عندما سمع ما تلفَّظ به فولتير إلى الصبيِّ. وليس هذا مُستغرباً، لأن فرانكلين، مثل الآباء المؤسِّسين الآخرين للمشروع الأميركي (كما كانت حقيقته)، كان متعمقاً في إدراك هذا المفهوم الناضج عن البشرية والحرية و الله.