إعادة قراءة «عمارة يعقوبيان
يمُر العالم العربي بتحوُّل هو الأعمق منذ قرنٍ من الزمان. ثمَّة عواملاستوحى الكاتب علاء الأسواني عنوان روايته، عمارة يعقوبيان (الصادرة في 2002)، والتي وصلت إلى قائمة الروايات المصرية والعربية الأعلى مبيعًا في العالم في العقد الماضي، من طموح مليونير أرمني أراد تخليد اسمه بمبنىً يحمله. شُيِّد المبنى في منتصف ثلاثينات القرن الماضي في مركز مدينة القاهرة المُتحوِّل حديثًا إلى الطراز الأوروبي؛ فكان تحفة معمارية وجد فيها عدد من الباشوات المصريين، والأوروبيين الأثرياء، ونجوم الفن سَكَنًا يليق بهم. يستخدم الأسواني مجموعةً من الشخصيات (بالإضافة الى المكان: المبنى ذاته والمناطق المحيطة به في «وسط البلد» بالقاهرة) لتشريح المجتمع في بداية القرن الحادي والعشرين، وكيف أصبح ما هو عليه.
لم يكُن التطوُّر الذي شهده العالم العربي في السنوات جاء حُكمُ الأسواني شديد الوضوح؛ فبعد انقضاء العهد الكوزموبوليتاني الليبرالي بمصر في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، وتحوُّلها إلى القومية العربية في الخمسينات والستينات، رحل سًكَّان التحفة المعمارية عن مصر، فارضين على أنفسهم منفىً اختياريًا في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وجاءت لتحل مكانهم، النخبةٌ الجديدةٌ من كوادر السلطة التي ظهرت بعد سقوط الملكية. أدى هذا التغير التدريجيٍ في قاطني العمارة الى تغييرٍ واضحٌ في شكل المبنى وروحه. في فترة وجيزة صارت «عمارة يعقوبيان» أقل أوروبيةً، وأقل عالميةً، و- رغم أنَّ الأسواني لا يقولها صراحة – أقل رُقيًا.
وبحلول الثمانينات والتسعينات، حدث تغير أخر. غادرت الطبقات من كوادر السلطة إلى ضواحي جديدة بدأت في الظهور في تلك الفترة، ضواحي بعيدة عن «وسط البلد» النابض في قلب القاهرة. هذا التغير أدى بدوره الى ظهور خليطٌ من مختلف الفئات الاجتماعية في «وسط البلد» – ومن ثم في عمارة يعقوبيان. كان هذا خليطاً من التُجَّار الأثرياء إلى مُهاجرين من الصعيد والدلتا يعيشون في «أعشاش» صغيرة على سطح المبنى. ومع مرور الزمن أصبح على بقايا الرُقيِّ الذي ولَّى عهده الصراع من أجل البقاء في تلك البيئة الاجتماعية المزدحمة.
جرَّد الأسواني التناقضات بين الرُقي القديم -الذي أصبح مُهمَّشًا وبالكاد قائمًا – وبين «المسخ» الذي حلَّ الآن في كل مكان، عبر شخصيتين محددتين: «زكي بيه»، ابن الباشا المُتعلِّم في باريس، الذي يتمسَّك -حتى في شيخوخته- بتذوُّق مباهج الحياة، و«الحاج عزَّام»، وهو الرجل الذي بدأ حياته بتلميع الأحذية بالقرب من عمارة يعقوبيان لينتهي مالكًا عدة محال تجارية في وسط القاهرة، بما في ذلك في عمارة يعقوبيان نفسها. وبصرف النظر عن رقي «زكي بيه» وأيضا بصرف النظر عن انغماسه في ملذَّاته، فإنه بلا عمل. يعيش زكي حياته في عمارة يعقوبيان وما حولها؛ يتنفَّس ذكريات شبابه في جنة وسط البلد المفقودة. أمَّا عزام فلا ينغمس في وسط البلد تلك؛ فهي تُذكِّره ببداياته المتواضعة. إنَّه يهرب من ذكريات قديمة محاولًا فصل الزمان عن المكان. وكما نعرف لاحقًا فإنَّه تاجر مُخدرات. واحدٌ كسولٌ عاطل؛ والآخر مجرم.
كان أحد الأسباب الرئيسية في تردُّد صدى الرواية بين مئات الآلاف من القراء المصريين هو أنَّ شخصياتها كانت واقعيةً وحيَّة؛ فكُلنا قد قابَلَ في حياته بعضًا من أمثال زكي، والكثيرين من أمثال عزَّام. لا تسعى «عمارة يعقوبيان» إلى أن تكون رحلةً، أو حتى قصةً نريد نحن -القراء- أن نعرف نهايتها. إنَّها تأكيدٌ لما شعرنا به لسنوات تجاه مجتمعنا.
لكن الأسواني ليس كاتبًا بسيطًا. فهو يتحسَّر على انقضاء زمن الليبرالية والجمال، ويمقت التديُّن الزائف، والقبح، والفظاظة التي أصبحت سمات الحاضر، لكن روايته ليست مُجرَّد إقرار لما يشعر به قراؤه. عندما نُشرت «عمارة يعقوبيان» وسَّعت نظرة المجتمع المصري إلى ماضيه القريب، لتُحوِّل السردية من شعبٍ يلوم السلطة (الحكومة، والنظام، والتراث السياسي الحديث، إلخ) على التدني الذي أصابه، إلى سرديةٍ يتفكَّر فيها المجتمع في الحاضر الذي صنعه الناس بأنفسهم.
ولكن الأسواني لا يعفي النخبة السياسية التي سيطرت على مصر في ذلك الوقت من المسؤولية؛ فقد أعطانا في روايته «الفولي» رمزًا للفساد والحدود الغائمة بين السلطة والثروة. لكن دور «الفولى» في الرواية ليس تحمُّل المسؤولية عن كل شيء؛ فهو بالكاد مسؤول عن القبح، والظلم، والفوضى التي تتكشَّف أمامنا بين سطور الأسواني التي لا يؤدي فيها «الفولي» دور المذنب. انه هنا مجرَّد نتاج للتردي التي ساد مصر في النصف الثاني من القرن العشرين.
المذنب الحقيقي هنا هو المجتمع، أي نحن القراء. لقد فقدنا ما كان وأبدلناه بما حولنا وبين أيدينا الآن. وبهذا المعنى، فان «عمارة يعقوبيان» ليست صراعًا بين الخير والشر، أو الأخلاق والفساد، أو الحق والباطل. إنَّها روايةٌ غنيةٌ تكشف لنا الجمال والقبح في داخلنا نحن المصريين. وببرودٍ طبيب الأسنان (مهنة علاء الأسواني الأولى) يُديننا نحن القراء باعتبارنا السبب الحقيقي فيما حدث لمجتمعنا.
إنَّ لقراءة «عمارة يعقوبيان» في عام 2016 شعورٌ مختلفٌ عن قراءتها حين نُشرت أوَّل مرة. يُمكن أن ننظر إلى انتفاضة يناير 2011 في مصر باعتبارها صرخة غضبٍ ضد ميراث النصف الثاني من القرن العشرين، الميراث الذي أوجد ونما التردي الحزين الذي عاشته مصر. اليوم تبدو الصورة مختلفة؛ فالقارئ حتمًا سيؤطر الرواية بالأحداث والاستقطابات التي شهدتها السنوات الخمس الماضية. قد يرى المتفائلون في ذلك دليلًا على أنَّ قطاعات واسعة من المصريين -الشباب بخاصةٍ- غير راضين عن تاريخ مجتمعهم الحديث ومساره. وفي هذا طاقة تغيير وارادة بعث.
ولكن قراءة الرواية في عام 2016 يُمكن أن تؤدي إلى استنتاج آخر؛ فـ«عمارة يعقوبيان»، ونجاحها الكبير على مستوى المبيعات، يُمكن أن يكون إدانة صارخة للمجتمع. ليست مصادفةً أن الموت يسيطر على القسم الأخير من الرواية. وأيضاً ليست مصادفةً أنه لا يصل أيٌ من شخصياتها الأساسية إلى نهايةٍ سعيدةٍ أو حتى مُرضية. قد يعني هذا أنَّ الغضب الذي يشعر به الكثيرون تجاه حاضرهم وماضيهم، والأمل الذي أطلقه هذا الغضب في تشكيل مستقبلٍ مختلفٍ تمامًا، قد استحال يأسًا.
يُثري الغموض تجربة قراءة أيَّة رواية؛ فجمال الأدب يكمُن في الحدود التي يفتحها لعقولنا لتفسير سردٍ بعينه، والوقوع في حب موقف، أو رفض وجهة نظر. ما هو مؤكَّدٌ أنَّ «عمارة يعقوبيان» قد فرضت علينا، كمصريين، أن نُفكر في أنفسنا وما فعلناه (ونواصل فعله) في مجتمعنا. كان هذا صحيحًا وقت نشر الرواية؛ ويبقى صحيحًا اليوم.