أدانت المؤسسات الإسلامية السعودية الكبرى الهجوم على مقر الصحيفة الفرنسية الساخرة «شارلي إبدو».

وفي الأسبوع نفسه، وجَّهت السلطات الدينية في البلاد اتهامًا للمُدوِّن الشاب رائف بدوي بإهانة الإسلام. كان من المُقرر أن يتعرَّض بدوي إلى عقوبة بألف جَلدْة، تُنفَّذ بواقعِ خمسين جَلدْة كل يوم جُمعة، لكن العقوبة قد أُجِّلت بعد إدانات دولية واسعة. وبعدها بأسبوع آخر، أصدرت محكمة مصرية حُكمًا بالسجن ثلاث سنوات على شابٍ بتُهمة «ازدراء الدين ».

هل انتكس العالم الإسلامي؟ في ثلاثينات القرن الماضي، كتب المؤلف المصري إسماعيل أدهم كتابًا عنوانه «لماذا أنا ملحد؟»؛ فلم يكُن الرد بفتوى تُهدر دمه، بل بكتاب آخر عنوانه «لماذا أنا مؤمن؟» للشاعر المُسلم أحمد زكي أبو شادي. كانت الأنظمة السياسية في المنطقة تتحوَّل تدريجيًا من المَلَكية الاستبدادية إلى التعدُّدية. كما أن الاقتصاد كان يتجِّه ببُطء إلى التصنيع. أحدث الفنَّانون المُبدعون ثورة في الأدب العربي، والموسيقى و فن المسرح والسينما. كان الشعور السائد في كافة أنحاء المنطقة هو إعادة إحياء العالم الإسلامي؛ فقد كانت دول شمال أفريقيا، وشرق المتوسط، وتركيا، وإيران تخوض تجارب جديدة مع شتَّى الأفكار، ووجهات النظر، والأنظمة الفكرية المُختلفة. انتشرت ترجمات الدساتير الغربية، والمقالات، والروايات، والمسرحيات. وفي العهد الليبرالي العربي، من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، خَلَق اذه االانفتاح بيئة فكرية مُنفتحة، وشُجاعة، وأكثر تسامُحًا من أي وقت مضى.

كان هذا الانفتاح والثقة الفكرية نتيجةً لعقود من انتشار الفكر الإسلامي واسع الأفق. في مطلع القرن العشرين، أعاد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، أبرز العلماء المسلمين في عصرهم على الإطلاق، أعادا النظر في مسار التاريخ الإسلامي. لاحظ الاثنان أن السياقات الاجتماعية والقَبَلية السلفيَّة قد فُرضت فرضًا على «الدين العقلاني». طوَّر عبده فهمًا جديدًا للدين؛ فرأى ثمَّة توافق بين الإسلام وموجات الحداثة التي شهدها العالم العربي والإسلامي في ذلك الوقت. يُمكننا القول إن المدرسة الفكرية التي أسسها هي أول تجديد حقيقي في الفكر الإسلامي السُنِّي في أكثر من سبعمائة سنة منذ القرن الثاني عشر، منذ أغلقت القوى الدينية والسياسية أبواب الاجتهاد والتفكير المستقل والخلَّاق. في العقود القليلة التالية، أوضَح العديد من الكتاب المشهورين، من أحمد أمين إلى عباس محمود العقاد، أن «فجر الإسلام» و«عبقريته» قد تحقَّقت حين تفاعلت حضارته مع حضارات أخرى، واستوعبت جوانب من تقاليدها، سواءً الفارسية أو الإغريقية.

في العقود السبعة الماضية، لم يكُن للأصوات البارزة المُطالبة بالوصول إلى أرضية مشتركة بين المرجعيات الإسلامية والحديثة مكانٌ في المؤسسات الإسلامية العريقة. كان بعضهم من الباحثين المستقلين، مثل المؤلف المصري جمال البنا؛ وكان بعضهم من المهاجرين المسلمين في الغرب، مثل عبد الوهاب المدب، الشاعر التونسي والأستاذ الجامعي الذي كان يعمل في فرنسا. لم يقتصر هذا على الإسلام السُنِّي؛ فالمفكر الأكثر تجديدًا في الحركة الإسلامية الشيعية في نصف القرن الماضي، عبد الكريم سروش، كان يعمل خارج إطار المؤسسات الشيعية في إيران، أو العراق، أو لبنان. كان قادة مجتمعات الأقليَّات الإسلامية، في الولايات المتحدة الأمريكية وجنوب أفريقيا على سبيل المثال، يقودون نقاشات جديدة، مثل تلك المُتعلقة بحقوق المرأة في الإسلام. كانت الجامعات الإسلامية الكبرى والمساجد العريقة منفصلة عن النقاشات والجدل الأكثر إثارة للاهتمام عن دور الدين في المجتمع الحديث. واصلت المؤسسات الإسلامية الرائدة حركة التجديد، ولكن في مجالات مختلفة؛ فقد تركَّزت جهود المفكرين البارزين الذين ظهروا في آخر ستة أو سبعة عقود من المؤسسات الإسلامية الرائدة في العالم العربي على التوحيد والفقه، وتطبيق الشريعة الإسلامية في الحياة اليومية الحديثة، مثل الشيخ المراغي، ومحمود شلتوت، وعبد الحليم محمود، ومحمد متولي الشعراوي، ويوسف القرضاوي. فُتحت أيضًا مجالات جديدة للبحث، مثل التمويل الإسلامي. وقد برز الخطاب الإبداعي في المدارس الصوفية الحديثة على الأخص. لكن أيَّا من هؤلاء العلماء لم يُعالج الانعزال الذي كان يفصل تدريجيًا بين المفاهيم الإسلامية التقليدية والفِكر الحديث.

مرة أخرى، كانت تلك بالكاد ظاهرة مُقتصرة على السُنَّة؛ فأبرز الأصوات في الفكر الفقهي والسياسي الشيعي في العقود الثمانية الماضية، من آية الله الحائري، إلى آية الله بروجردي، إلى آية الله السيستاني، قد أكملوا ما أسَّسته التقاليد القديمة، بدلاً من تقديم فهمٍ جديدٍ مختلف. المُجدد الأبرز في الفِكر الشيعي الحديث، آية الله روح الله الخميني، سار على نهج المفهوم القديم في المدرسة الجعفرية الشيعية: ولاية الفقيه، وطوَّره ليصبح إطارًا اجتماعيًا شاملاً للمجتمعات الشيعية. في الواقع، وضع ذلك كافة المسائل العامة، من السياسة، إلى الاقتصاد، إلى التعليم والأخلاق الاجتماعية، تحت السيطرة المباشرة لنظام حُكم رجال الدين الذي لم يطرأ عليه تغيُّر يُذكر منذ القرن السادس عشر، وهي الفترة التي شهدت فورانًا ضخمًا في فرقة الاثنا عشرية الشيعية.

كان العالم الإسلامي، طوال القرن العشرين، يُعانى فقر التقدم العلمي، والضعف الشديد للنمو الاقتصادي، وارتفاع معدلات الأمية. وبالنظر إلى هذه العوامل سويةً، فإن قطاعات واسعة من المسلمين كانوا بالكاد قادرين على استيعاب التغيُّرات التي حدثت في الغرب فيما يتعلق بدور الدين في المجتمعات الحديثة. لم تكن المؤسسات الإسلامية تتعرَّض إلى ضغوط اجتماعية من أجل التغيير بالقَدر الذي واجهته المؤسسات الدينية الغربية قبل قرون.
النتيجة: واصلت المؤسسات الإسلامية الأكبر، والأغنى، والأبرز احتلالها لعالمٍ فكري لم يتغيَّر كثيرًا في الثلاثمائة سنة الماضية. فقد العالم الإسلامي الزخم الذي أطلَقَه مُفكِّرون مثل محمد عبده والعقَّاد، وآخرون. فقد الفكر الإسلامي الرابط الذي أنشأه هؤلاء المفكرين بمراحل سابقة في تاريخ الحضارة الإسلامية، خاصة في القرنين التاسع والعاشر، حين طوَّر روَّاد الفلاسفة المسلمين تفسيرات على درجة عالية من الإبداع للإسلام. فقدت المؤسسات الإسلامية الرغبة في التجديد في المجالات التي كانت مؤثرة للغاية في تحديد دور الدين في المجتمع الحديث.

ومع ذلك، فقد شهد العقد الماضي تغييرًا هائلاً. سمحت التقنيات الجديدة للأجيال الشابة في البلدان الإسلامية برؤية كيف تغيَّرت طبيعة الدين ودوره في أجزاء مختلفة من العالم. وبينما ظلَّت المؤسسات الإسلامية معزولةً في النقاشات الفقهية، بدأت قطاعات واسعة من الشباب المسلمين في استكشاف أفكار جديدة حول طبيعة الدين ومكانه في حياتهم، تلك الأفكار التي تراوحت بين التأمُّل والإصلاح، إلى الراديكالية والعنف.
في الواقع، كان الإسلام أقل الأديان قابليةً للإخضاع عبر التاريخ، نظرًا لظروف تطوُّره التاريخي الفريدة من نوعها في المقام الأول، ولكن أيضًا لأن الإسلام السُني (الذي يدين به أكثر من 80 في المئة من المسلمين اليوم) يفتقر إلى كهنوت هرمي. في العصور السابقة، أعطى هذا الإسلامَ القوة اللازمة لمواجهة التحديات الاجتماعية، والسياسية، والدينية. وهو يعني اليوم أن الإسلام سيستمر في التطوُّر، بصرف النظر عن التفكير السائد في المؤسسات الدينية الكبرى. ولكن ذلك ينطوي على مخاطر؛ فسوف يجري هذا التطوُّر بعيدًا عن المراكز التي مثَّلت مستودع المعرفة الإسلامية لقرون عدَّة.

سوف تُطوِّر الأجيال الشابة من المسلمين، داخل وخارج العالم الإسلامي، أفكارها الخاصة عن كيفية جعل الدين يندمج في عالمهم سريع التغير. سوف يُثير الإبداع المياه التي ظلَّت راكدة لعقود من الزمن. ولكن بعض هذه الأفكار سيكون متعصبًا. من المُرجح أننا سنشهد محمد عبده آخر، ولكننا سنشهد أيضًا، على طول الطريق، الكثير من المسلمين المُشتَّتين. سيكون هؤلاء الذين يعانون من التشتُّت بين التناقضات الظاهرة بين المُقدس والدنيوي سببًا في الفوضى التي ستحِل مستعملة اسم الدين.

كلما لجأت المؤسسات الدينية أكثر إلى فرض سُلطتها من أعلى إلى أسفل، وإلى الإصرار على احتكار الحق في تفسير الدين، سيزيد الانفصام بين عالمهم وعالم الكثير من الشباب المسلمين. الحل هو أن توسِّع المؤسسات الدينية نطاق بحثها، وتُقلِّص من نطاق رقابتها الاجتماعية، وتفتح أبوابها. يجب أن يتعدَّى البحث الديني الحدود التقليدية للفقهه وتنفيذ الشريعة في الحياة اليومية. ينبغي أن تُحدث المعرفة المتراكمة من قرون من البحث والدراسة مصالحةً بين الإسلام والحداثة. ينبغي أن يَلقَى التفكير الإبداعي المستقل الترحيب والرعاية، وليس القمع.

يجب أن تدرك المؤسسات الدينية، وتُقر بأن الفكر والخطاب الإسلامي يحتاج إلى الانفتاح على الثقافات المختلفة. منذ نهاية العهد الليبرالي العربي في أوائل خمسينات القرن الماضي، تشكَّل الخطاب الإسلامي عن طريق الاتجاهات الدينية المُتشددة، أو الطائفة الوهابية السُنيِّة على وجه التحديد. كانت الوهابية الُممِّول الأكثر سخاءً للمؤسسات التعليمية الإسلامية في جميع أنحاء العالم؛ وسيطرت، لأكثر من قرنٍ الآن، على المسجدين الأعلى مكانةً في الإسلام في مكة والمدينة. اكتسبت الوهابية، وغيرها من الاتجاهات السلفيَّة التي تقصر التفكير على حرفية النصوص ، مكانةً بارزة في العالم الإسلامي والعربي، خاصةً في نصف القرن الماضي. وهي منتجات لثقافات صحراوية، تفتقر إلى التعدُّد والانفتاح على العالم، ولم يطالُها أثر العهد الليبرالي في العالم العربي والإسلامي.

تعيش أغلبية المسلمين اليوم في بلدان غير عربية، كان تراثها الثقافي، وبخاصة في القرن العشرين، أبعد ما يكون عن التجانس. ينبغي أن يتجاوز الفكر والخطاب الإسلامي العزلة التي اتَّصف بها في نصف القرن الماضي. لقد حان الوقت لاستكشاف ثراء المجتمعات الإسلامية وما يُمكن أن تُقدِّمه للفكر الإسلامي.

ينبغي أن تدعو المؤسسات الإسلامية أصواتًا من خارج جامعاتها. قد لا يكون المُدوِّنون، وأصحاب المشاريع الاجتماعية، وقادة الشباب، علماء في الفقه، لكنهم خبراءٌ في فهم الكيفية التي يرى بها مئات الملايين من المسلمين الشباب دينهم. لن ينجح التعالي والغطرسة في تحقيق أي شيء؛ فنظرًا للتغيرات الديموغرافية، والاجتماعية، والتكنولوجية التي شهدها العالم بسرعة غير مسبوقة، ستواجه المؤسسات الإسلامية واحدًا من أخطر التحديات في تاريخها.

إذا تهَّربوا من التحدي، سندفع جميعًا الثمن في شكل موجة هائلة من التشتُّت، والغضب، والتعصُّب المحموم.