يُقسِّم هنري كيسنجر العالم على أساس جغرافي، لكنه يُحلله عبرَ عدسة ثقافية. يأخذنا كيسنجر في سلسلة من «التأملات» في النظام العالمي تُمثِّل رحلةً تبدأ من اللحظة التي توافقت فيها القوى العالمية على «نظام» لسير العلاقات الدولية، ثم التوقيع على معاهدة وستفاليا في عام 1648 بنهاية حرب الثلاثين عامًا، وانتهاءً بيومنا هذا.

لتجنُّب الانزلاق إلى الفوضى. يعرض كيسنجر في القسم الأخير من الكتاب أفكاره حول تأثير الاتصالات الحديثة، والإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي على مفهوم سيادة الدولة، وخصوصية الإنسان، والتماسك المجتمعي؛ ويدور هذا القسم حول إيمانه القوي بأن العالم يحتاج إلى نظامٍ تتفاعل الدول من خلاله مع بعضها البعض. وعلى الرغم من أنه لا يقول ذلك مباشرة، يرى كسينجر أن تحطيم الإنترنت لكافة الحواجز بين المجتمعات، وتغييره التدريجي من إحساس الفرد بالانتماء، إنما هو تهديدٌ للاستقرار السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي. إنه يدعم ببراعةٍ الحاجة إلى تنظيم هذا العالم الافتراضي، الذي، في رأيه، إذا ما تُرك بغير تنظيم فسيكون بمثابة إعلان لحقبة من الفوضى المطلقة في أداء المجتمعات.
يملك كيسنجر، بالطبع، من الدهاء ما يكفي للامتناع عن طرح مقترحات بشأن من يقع على عاتقه فرض هذا التنظيم، أو كيف يجب أن يتم. وبطرح هذه النقطة جانبًا، يكمُن تخوٌّفه من الطريقة التي يُغيِّر بها الإنترنت الأداء البشري، وقدرة البشر على السيطرة على سلوكهم في عالمٍ يندمج فيه الافتراضي مع الواقعي بصورةٍ مُتسارعة. يؤكد كيسنجر أيضًا على شكوكه بشأن قدرة القادة السياسيين على الارتفاع فوق الضغوط التي يفرضها الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي على عمليات صنع القرار.

ثمَّة خطرٌ حقيقيٌ في أن تتحوَّل السياسة إلى مسرحٍ لإدارة التصوُّرات، معيار الحكم فيها هو عدد من المتابعين على «تويتر»، وعدد «الإعجابات»، بدلًا من كونها عمليات صنع القرار التي، من الناحية النظرية على الأقل، تُعظِّم المنفعة العامة لأمة بعينها. طوال صفحات هذا القسم، يقذف كيسنجر بمختلف التخوُّفات على القارئ، دون أن يُخاطر بطرح أيَّة إجابات. ما يبرع فيه حقًا هو دق ناقوس الخطر، بطريقة عالم السياسة وصانعها، بشأن مدى التغييرات التي يسببها الإنترنت في حياتنا، دون أن يبدو كرجل عجوز غاضب من التغييرات التي تجري من حوله.
يتجاوز كيسنجر في بقية الكتاب طرح الأسئلة وبث التخوُّفات؛ فيشرح في فصول كتابه كيف تطوَّرت الرؤى المختلفة بشأن النظام العالمي: الأمريكية، والصينية، والأوروبية، والهندية، والإسلامية، واليابانية، والروسية. يتمتَّع منهجه بالاتساق؛ فهو يحدد التجارب التكوينية والتحوُّلية التي مرَّت بها كلٌ من هذه المجتمعات؛ يتوقَّف عند الأدوار التي لعبتها الشخصيات التاريخية الرئيسية؛ ويتعمَّق في المزايا الثقافية الفريدة لتلك المجتمعات. إن ملاحظاته ثاقبة دائمًا تقريبًا؛ وتسلسُل أفكاره منطقي للغاية، حين يربط بين التجارب، وأدوار القادة، والتراث الثقافي، والصدمات التي شهدتها المجتمعات. لكن هذه الأفكار انتقائية.

في كل فصل من فصول الكتاب، ينتقي كيسنجر ما يراه تجاربَ تاريخية مهمة، وأفرادًا جديرين بالذكر، وتحديات تستحق التأمل. قد يختار مراقبون آخرون فصولًا تاريخية مختلفة، وقادة، وصدمات مختلفة كذلك. من الطبيعي أن تكون تحليلات كيسنجر لتلك الرؤى المختلفة بشأن «النظام» منقوصة.

كما أن هذه التحليلات أمريكية بشكل جلي. بالنسبة إلى مراقبٍ بمكانة كيسنجر، فمن المستغرب ألَّا تتمتَّع آراؤه بقدرٍ من التجرُّد المتوقع من شخص يملكُ فهمه للتاريخ، و خبرته الطويلة في الشؤون الدولية. إن أمريكيته قديمة الطراز قليلًا. في حين يُضفي معظم الخبراء الاستراتيجيين الأمريكيين الحديثين على طروحاتهم تفنيدًا جادًا للسياسة الخارجية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تفتقر تأمُّلات كيسنجر بشأن رؤية أميركا للنظام العالمي إلى أي نقد حقيقي لتاريخ صعود النفوذ الأميركي في العقود السبعة الماضية. ينقص ذلك من قيمة رؤيته. والأهم من ذلك، يجعلها أقل فائدة لصنَّاع القرار الأميركيين.

على النقيض من ذلك تأتي مناقشة كيسنجر للمنظور الصيني؛ فيرتكز فيها على تقديراته بشأن التاريخ الصيني، والثقافة، وهيكل السلطة في الصين، التي عرضها في كتابه السابق On China. تحمل حججه ولهجته احترامًا واعترافًا بالعبء الثقيل الذي تضعه خبرة الصين الهائلة على تشكيل منظورها بشأن «النظام العالمي». ولكن كيسنجر يبدو صريحًا في عرضه لأفكاره بشأن الصعود الصيني في القرن العشرين؛ فيوجِّه اللوم لمَن يستحق، وبالطريقة التي يستحقها. أبرز من يوجِّه له اللوم هو ماو تسي تونج وسياساته الاجتماعية والاقتصادية الكارثية التي أدَّت إلى مجاعة كبرى وخسارة الملايين من الأرواح. يفعل كيسنجر الشيء نفسه مع تجارب الدول الأخرى، مثل الالتزام الهندي المستمر بنموذج اشتراكي مُعتمد على الدولة، أدَّى إلى خنق روح المبادرة تحت وطأة هيكل الدولة العملاق. وهكذا يتجلَّى بالمقارنة أن تحليله للتجربة الأميركية في العقود السبعة الماضية قد جاء مُتساهلًا في أفضل الأحوال، ومُخادعًا في أسوئها.

يأتي عرض كيسنجر لوجهة نظر الإسلام للنظام العالمي مثيرًا للاهتمام؛ فيبني نظرته على تمييز بعض فقهاء الدين الإسلامي بين «دار السلم» (الأراضي الإسلامية نفسها) و«دار الحرب» (بقية العالم)؛ ويستخدم هذه الفكرة كمنصة إطلاق لتفسير لماذا الإسلام، في تقديره، رافضًا لأي «نظام» غير هذا، في الماضي أو في المستقبل. في بداية الفصل على الإسلام، يُقدم كيسنجر توضيحا من أن الآراء التي انتقاها إنما تُمثِّل واحدًا فقط من آراء عديدة شكَّلت الفكر الإسلامي، وتعاطيه مع العالم. إنه تحذير جدير بالإعجاب وصحيح، ولكنه لا يجيب على السؤال عن السبب في اختيار هذه النقطة تحديدًا لتمثيل وجهة النظر الإسلامية من بين وجهات نظر غنية جدًا ومتنوعة أنتجتها عشرات من المدارس الفكرية الإسلامية على مرِّ القرون الماضية. الجواب المحتمل هو أن كيسنجر اختار مدرسة فكرية إسلامية تعكس، في رأيه على الأقل، القوة الأكثر فعالية في العالم الإسلامي في الوقت الراهن. إذا كان هذا صحيحًا، فهذا يعني أن كيسنجر يرى أن جماعات مثل «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، والجهاديين السلفيين الآخرين، تمثِّل اهم الفكر الفاعل بين المسلمين اليوم، ومن المحتمل أن تشكل مستقبل تفاعل الإسلام مع العالم.

ومن المثير للاهتمام أن كيسنجر يميَّز بين المنظور الإسلامي والإيراني. وأظن أن دافعه في هذا عاملين اثنين: الأول هو افتتانه بـ«الثقافات». إن الحضارة الفارسية خلابه؛ فهي تنطوي على رؤية فريدة من نوعها للعالم، تضع بلاد فارس في مركز العالم المتحضر، وتقيس صقل و تحضر الآخرين من خلال قربهم أو بعدهم عن الفارسيِّة. يُمكن القول إن الثقافة الفارسية كانت هي الأقوى في العالم الإسلامي. إنها الحضارة الكبرى الوحيدة التي اختارت أن تعتنق الاسلام دون أن تُضحي بلغتها الخاصة وتنتقل إلى اللغة العربية. أما السبب الثاني فقد يكون خبرة كيسنجر الشخصية. في سبعينات القرن الفائت، كان كيسنجر مهندس علاقة أميركا مع الشاه محمد رضا بهلوي؛ و هذه تجربة اتاحت له التعرف على الرجل، وعائلته، وتاريخه، و بلده، وما شكَّل معالم رؤيته للعالم. وعلى الرغم من أن كيسنجر قد أصبح مُقرَّبًا نسبيًا إلى أنور السادات، الرئيس المصري آنذاك، فقد كانت تجربته في التعامل مع شاه إيران أطول، وأكثر عمقًا، ويمكن القول إنها شخصية بدرجة أكبر من أي من علاقاته في العالم العربي. لكن هذين العاملين، حتى إذا كانا صحيحين، تخفقان في إدراك أن الحضارة الإسلامية هي خليط من مختلف من الثقافات والرؤى، بما في ذلك بلاد فارس.

بالرغم من ذلك فإنِ اختيار كيسنجر التركيز على ثنائية الإسلام بين السلم والحرب، واقتطاع السلفية الجهادية كقوة حاسمة في العالم الإسلامي اليوم، وفصل صقْل بلاد فارس عن بقية العالم الإسلامي يدفع القارئ المنتمي ثقافيًا إلى العالم الإسلامي إلى التحديق في التهديد الذي يواجه هذا العالم. وحين يتعلَّق الأمر بالعالم الإسلامي، لا يرفع كيسنجر رايات التحذير من العنف؛ فهو لا يحاول إثارة القلق، ولا الاشتراك في هستيريا «أسلمة أوروبا». إن أطروحته أكثر ذكاءً من ذلك؛ فهو يقول إن العالم الإسلامي يُدفَع ببطء إلى خارج النظام العالمي، على يد المسلمين أنفسهم.