نار الغضب و الرفض في ساحات و طرقات لبنان ليست مدمرة لتأخذ البلد الى غياهب الحرب الأهلية، كما أنها ليست مُطهرة بما فيه الكفاية لتُخرِج من النار طائر الفينيق الأسطوري رمزاً لميلاد جديد لأرض الفينيقيين .. نار الغضب و الرفض في حقيقتها تعبير عن معضلة لبنان منذ لحظة ولادة الدولة اللبنانية الحديثة منذ تقريباً قرن من الزمان. تلك المعضلة أخذت أشكال مختلفة، لكن في قلبها يكمن بحث لبنان المزمن عن معناه كدوله، و عن تجسيد روحه ككيان .. و فشله الدائم طيلة هذا القرن في إيجاد معنى واضح، و تجسيد قابل للوجود على أرض الواقع، يتفق عليه أغلب اللبنانيون.

المعنى مهم في حالة لبنان .. ذلك ان مشروع الدولة اللبنانية الحديثة نفسه قام على مجهودات موارنة لبنان، و في قلب جهودهم: الكنيسة المارونية، من أجل خلق كيان سياسي يمثل الموارنة، و بعيد عن تأثيرات القوى الأقليمية الكبرى التي طالما تحكمت فيهم و في لبنان. و قد كان نجاح هذه المجهودات عندما استطاع الموارنة إقناع قوى غربية، و خاصة فرنسا، ان يكون جبل لبنان و المدن الرئيسية تحته، و أهمها بيروت، ميراثهم بعد سقوط الدولة العثمانية .. و قد كان.

هذه الدولة اللبنانية الوليدة كان مُتصور لها ان تكون مارونية، ليس فقط من خلال قيادتها السياسية، و لكن أيضا، و ربما الأهم، من خلال روحها الاجتماعية و هويتها.

فكرة الروح و الهوية هنا جوهرية… ذلك ان لبنان في الفهم الماروني ليس فقط ارض. انه جبال و وديان مقدسة، مرتبطة بتصور معين للوجدان المسيحي و علاقته بهذه الأرض بالذات. مرتبط بذلك التصور، هناك قناعة بفكرة الشهادة داخلة في عمق هيكل الفكر الماروني، و بالطبع مرتبطة في تاريخ الموارنة بما عانوه سواء اثناء قرون التسلط العثماني او عقود السيطرة المصرية على لبنان…و قد كان للتسلط و السيطرة أثرهما في الوجدان الماروني.

أضف الى ذلك، ان الموارنة رأوا لأنفسهم دورًا خاصًا في الشرق…و في هذا الدور هم في طليعة المعلمين و المثقفين و المُثقفِين…في هذا الدور هم جسر حضاري بين العروبة في الشرق و بين الغرب و بالذات أوروبا. و قد كان ذلك التصور للدور الخاص نابعًا من الواقع .. حيث ان الموارنة كانوا فعلاً في طليعة أهم حركات الثقافة الحديثة المُستوحاة من الغرب، سواء في التعليم، الصحافة، المسرح، الأدب، و أخيرا السينما .. كانوا جسرًا بين خيال حضارتين على ضفتي البحر الأبيض المتوسط.

و حيث ان اللبنانيون ورثة الفينيقيين، فقد هاجروا بدورهم الثقافي من ارضهم محدودة المساحة الى قلب المشرق: الى مصر. و هناك، و في لحظة تفتح ثَم ازدهار الفكر العربي الحديث في نهايات القرن التاسع عشر و النصف الأول من القرن العشرين، بعد قرون من الإنغلاق و التراجع، كان اللبنانيون هناك، يضيفون و يعطون و يخلقون .. و عندما انتقل الوزن السياسي و الاقتصادي في العالم العربي من مصر الى الجزيرة العربية، انتقلت معه عقول لبنانية كثيرة…و قد كانت الهجرة طبيعية .. ذهب كثير من المفكرين و المبدعين الذين كانوا قد تركوا جبالهم و وديانهم الى مراكز القوة و التأثير الجديدة .. و لم يكن غريبا ان وجد ملوك و أمراء الجزيرة في اللبنانيين الذي قدِموا اليهم (و خاصة في موارنة لبنان) ليس فقط مجموعة من أهم مستشاريهم، و لكن أيضا وجدوا في الوجدان الماروني إضافة من رقي شواطئ المتوسط للبداوة الصحراوية.…و في كل ذلك، وضع الموارنة – و معهم مجموعات من اللبنانين و خاصة من مسيحيي لبنان الذين التفوا حول الفكرة المارونية لمعنى وطنهم – يدهم ليس فقط على دورهم، و لكن أيضا على قدرتهم التنافسية في الشرق العربي المزدحم.

لكن مع تجسيد الهوية و حلم الدولة التي تعبر عنها، و بالرغم من القدرة التنافسية، كانت هناك مشكلة عميقة: ان الدولة الوليدة لم تكن مارونية او حتى مسيحية… الذي حدث أن خضم الحرب العالمية الأولى و ما لحقها أجبر الموارنة ان يقبلوا بأن يشاركهم في دولتهم الجديدة مسلمي الوديان و المدن في تلك الأرض، و منهم السنة و الشيعة، بالإضافة الى جيرانهم (و أحياناً كثيرة، أعدائهم) في الجبل: الدروز.

و كان من نتيجة ذلك أن فكرة لبنان، كما رأها الموارنة، ضعفت او مُييعت. ذلك ان لا أحد، سواء من السنة او الشيعية او الدروز كان قد قبل بتلك الصورة الفكرية و الهوية التي تصورها الموارنة.…بل ان البعض، و خاصة العائلات السنية الكبرى (مثلاً في بيروت) ترددوا كثيراً في القبول بالدخول في تلك الدولة الوليدة، لأن كثيرون منهم رأى هويته سورية في الأساس…سوريا هنا ليست دولة، بقدر ما هي التمركزالتاريخي للإسلام السني في الشام الكبير…و عليه فإن هؤلاء السنه دخلوا الدولة الجديدة بتصور شديد الإختلاف عن تصور الموارنة للدولة .. إختلاف الرؤية كان أيضاً موجودًا و واضحا في حالة الدروز، و قد كانوا لقرون هم سادة الجبل .. و إيضاً في حالة الشيعة، و هم منذ أزمنة بعيدة ذو رؤية تمتد بعيدا عن شواطئ البحر الأبيض المتوسط واصلة الى مراكز الفكر الشيعي سواء في العراق او في إيران.

لكن العقود الأولى للبنان أتت بتعايش سلمي و بداية مُبشِرة لتلك الدولة…وقتها بدا المشروع السياسي الذي تحقق في أعقاب الحرب العالمية الأولى قابل للنجاح…و كان ذلك ليس لأن الفرقاء في البلد قد وجدوا حلولًا لاختلافاتهم حول فكرة الدولة، و لكن لأن تلك الدولة كان لديها ما كان الشرق الأوسط يحتاجه حينئذ.…كان لبنان، في الفترة منذ أربعينات القرن الماضي الى ستيناته مكان نشر الثقافة، مكان الفكر الحر، الى حد بعيد مكان للتعلم، و لا شك مكان المتعة و المرح .. و قد كان كل ذلك بينما العالم العربي في أوج صراعات عاتية بين مشاريع سياسية و أفكار و ايديولوجيات، من القومية العربية الى مصالح الرأسمالية البترولية الى الإسلام السياسي الى القضية الفلسطينية و الصراع مع إسرائيل.…في وسط كل ذلك، أصبحت مقاهي الأشرفية و بارات الحمرا و راس بيروت و كبائن و فيلات جونيه و البترون، و بيوتات عشرات من قوادم عائلات بيروت و الجبل أماكن للحوار، للفكر، للعب.

لبنان إمتطى أمواج الشرق الأوسط العاتية برشاقة…و حينما كانت عواصم أخرى للفكر العربي تدفن رؤسها في الرمال و أخرى تضع نقاب على رؤوسها، كانت بيروت ضاحكة للدنيا، فاتحة ذراعيها و عيونها و عقلها …جسر الخيال بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط أضاف دوراً أخر لنفسه، فصار ساحة الإبداع و الحرية (بأوسع معانيها) داخل عالم عربي كان يُغلق ستائره على نفسه.

و مع تلك الأدوار للبنان، جاءت ملايين الدولارات باحثة عن العلم، عن التأثير، و عن المتعة…علت الضحكات، قلت المخاوف، زوُي القلق الذي كان في الوجدان في لحظات ولادة الدولة…و بدى وقتها البحث عن إجابات لأسئلة مَثَلَ معنى لبنان، هويته، روحه، نقاط الإلتقاء و التنافر بين مكونات مجتمعه، مستقبل الفكرة المارونية .. كل ذلك بدى سفسطائية بلا معنى…و قد كان يمكن تفهم ذلك…من ذا الذي يريد طرح أسئلة كتلك، و الدخول في نقاشات كتلك، في مثل تلك الأوقات الجميلة.

لكن الأوقات تتغير…و بعد ان كان لبنان يمتطي أمواج الشرق الأوسط، أصبح في لحظات تاريخية سريعة تحتها .. الى حد بعيد، كان لبنان ضحية نجاحه. تلك الجميلة التي استمتعت بانبهار عشاقها بها، وجدتهم في لحظات يتصارعون عليها .. و مع الصراع تحولت ارض اللبن و العسل الى انهار دماء.

لكن حرب لبنان الأهلية منذ ١٩٧٥ الى ١٩٩٠ لم تكن حرب الأخرون على ارض لبنان كما وصفها بعض مفكريه .. الحرب أتت الى السطح بالأسئلة و المعضلات التي أبقاها اللبنانيون مدفونة طيلة عقود .. و ما أتى الى السطح كان قبيحاً .. كان تجسيداً من قتل و دماء و دمار لفشل في القيادة، فشل في السياسة، فشل في التفكير في إجابة لذلك السؤال الرئيسي في لبنان: عن البلد، عن هويته.. و مع كل ذلك: كيف يمكن إيجاد تناسق بين رؤى شديدة الإختلاف لمعنى و ذات لبنان.

و لعل الأكثر ايلاما كان أن الحرب انتهت، ليس لأن المحاربون وصلوا الى قناعة بالقبول بالأخر، و لكن انتهت لأن الظروف الاستراتيجية في الشرق الأوسط إقتضت إنهاء الحرب. وقتها، كانت الولايات المتحدة مستعدة لتسليم لبنان الى الرئيس حافظ الأسد في مقابل عدد من الملفات التي ارادت مساعدته فيها، كما ان ظروف حرب تحرير الكويت من غزو صدام حسين هيئت المملكة العربية السعودية لدور واسع في عدد من الدول، كان لبنان في مقدمتها…و عليه، فإن السعودية أغرت و صرفت و أشترت…و في النهاية، و في غضون شهور قليلة من التدخل السعودي المالي، كان أهم المحاربون قد وجدوا في ما بذلته السعودية من عطاء مقابلًا جيدا لوضع السلاح و التوقيع على إتفاق الطائف الذي أنهى الحرب اللبنانية.

لكن اذا كان السلاح قد وُضِع جانبا، فإن أمراء الحرب بقوا على الساحة، الآن رؤساء أحزاب و قادة حركات و وجوه مرحلة السلام.…و بالطبع كان أمراء الحرب هؤلاء، و إن لبسوا أقنعة مختلفة، أخر من يمكنه – او من يريد – الإجابة على أسئلة المعنى و الهوية … و الحقيقة أن الكثيرون ممن كان يمكنهم تقديم إجابات قُتِلوا في الحرب، إما جسديًا او معنويًا.…و قد كان خروجهم من الساحة، مع بقاء أمراء الحرب و ميليشياتهم و اعوانهم و إقتصادهم مسخ جثم على صدر و روح لبنان .. و قد استمر الجثوم لعقود.

لكن التاريخ، كعادته، ابتسم و منح لبنان فرصة .. و إن كان مجئ الفرصة كان من خلال دراما حزينة … كان إغتيال الرئيس رفيق الحريري في فبراير ٢٠٠٥ ضربة لكرامة لبنان .. و ما لم يحسبه موجهوا الضربة كان قدر الغضب الذي ولده الإغتيال.. و كان مع الغضب طاقة خلاقة حولت لحظة الوعيد الى لحظة وعد .. و قد جاء في لحظة الوعد فرسان جدد حاملين آمال و طموحات خلابة للوطن الجريح ..كما جاء فرسان قدامى رأوا في اللحظة فرصة غفران لماضيهم.

كانت لحظة الوعد تلك نقطة نادرة في تاريخ لبنان، أراد فيها البعض، و قد كان مع الإرادة فرصة، أن يُعيدوا خلق هيكل السياسة اللبنانية و اسلوب الحكم في البلد، و في نفس الوقت، الإجابة على السؤال القديم حول المعنى و الهوية و الذات .. و كان في التوافق اللبناني وقتها على رفض الضربة فرصة حقيقية للخروج بإجابة معقولة يجتمع حولها الكثيرون من المكونات المختلفة و من الفرقاء. خاصة أن التواجد في الشارع اللبناني وقتها للتعبير عن الغضب قد أظهر أن هناك طبقات واسعة كانت بعيدة عن دوائر السياسة قد رسخت وجودها في الوطن و أصبحت بدون أي شك عنصرًا رئيسيًا في البلد.. و إن كان هناك في ٢٠٠٥ من رفض توجهات سياسية معينة، فلم يكن هناك، في الغالبية الساحقة من اللبنانيين، من أراد العودة الى ما قبل ٢٠٠٥… و كان من نتائج كل ذلك أن ظهر بوضوح لبنان متعدد، متخطي تشكيلته في لحظة الولادة و شكله في لحظة الحرب.

لكن شعلة ٢٠٠٥ أُطفِئت، بأيدي لبنانية، من اتجاهات و مصالح و طوائف مختلفة .. و الحاصل ان الاقتصاد السياسي الذي تحكم في البلاد منذ انتهاء الحرب الأهلية إستمر، و معه التغول على الأرض و الناس و الروح، و معه القبح الذي ساد مكان الجمال الذي كان على الأقل في الحلم لحظة الميلاد … و لعل في هذه اللحظة، كانت تماثيل العذراء بنظراتها الحزينة المزينة لجبل لبنان التعبير الأصدق عن عمق الجرح في الوجدان اللبناني.

إذن .. اذا كانت نار الغضب و الرفض في ساحات و طرقات لبنان اليوم ليست احتراقا و ليست ميلادا أسطوريا، عن ماذا تعبر إذن؟ لعل النار فرصة جديدة من التاريخ للبنان. لعلها بداية رحلة .. لكن اذا كان لتلك الرحلة ان تنجح و تصل الى نهاية سعيدة، فلابد لخيط سيرها أن يصل الى ما هو أبعد من مجرد محطات بسيطة مثل تشكيل حكومة تكنوقراط و تعديل قانون الانتخابات، و غيرها .. نجاح الرحلة يستلزم محاولة جديدة جادة للوصول الى فهم واحد لمعنى لبنان و هويته و دوره، يتفق عليه اللبنانيون. هذه النقطة أكبر من مجرد تلك الجملة الخاوية، قليلة الطموح: “العيش المشترك”. ذلك انه بدون ذلك الفهم المتفق عليه لمعنى البلد و هويته و دوره، ليس هناك بلد أصلاً.

لكن، هناك خطرين اثنين يهددان تلك الرحلة نحو هذا الشاطئ الأمن.

الأول هو الاستسلام لأوهام القوة .. ذلك انه ليس هناك في لبنان هوية واحدة، او فهم واحد لمعنى لبنان و دوره و مكانه في الشرق الأوسط، يمكنه فرض نفسه على الأخرين لفترة طويلة من الزمن، مهما كان فارق القوة بين صاحب هذا الفهم و الأخرين، و مهما ادعى صاحب هذا الفهم سلطة أخلاقية فوقية.

الخطر الثاني هو طفولية الفكر .. ذلك ان هناك عدد من القوى اللبنانية التي قد أسقطت نفسها في غياهب تصورات انها ضحية الأخرين، وان رؤاها المغلوطة للتاريخ حقائق، و ان قاتليها الذين تلطخت أيديهم بالدماء شهداء .. و قد كان العيش في تلك الأوهام مُريحاً للضمائر و مُسكناً للعقول، و لكن غياهب الأوهام و طفولية الفكر ليسا مقدمات لرحلة يصل بها مجتمع الى فهم لذاته و الى مستقبل أمن.

و يبقى قبل و بعد كل ذلك ان لبنان بلد خاص، بتاريخه و خغرافيته .. لكن معضلته لم تكن في السنوات القليلة الأخيرة و لم تكن في الثلاثين سنة منذ انتهاء حربه الأهلية. المعضلة كانت موجودة منذ لحظة ولادته منذ قرن من الزمان و قد استمرت بأشكال مختلفة طيلة كل هذه العقود .. و لعل أصدق تمني لمحبي هذا البلد الجميل الراقي ان تكون نار الغضب و الرفض في ساحاته و طرقاته الآن بداية نور يهدي في الرحلة التي على اللبنانيين ان يخوضوها .. و لعلها تكون قصيرة و هادئة و أخرها لقاء عقول و قلوب تتفق معًا، ليس فقط على صيغة عيش مشترك، بل على معنى و هوية الوطن الرائع الذي يسكنوه.