لماذا كان الكمال في البداية، ثم أعقبه نزول تدريجي. ثم كيف كانت البداية. نحن لا نعرف شيئا واضحاً عن لحظة البدء و مرحلة الانطلاق الأولى للحضارة في مصر .. لكننا نعرف أنها كانت الإشعاع الأكبر في محيطها الواسع، شرقا الى أواسط الهلال الخصيب، غربا الى المستوطنات الرومانية في شمال ليبيا، و جنوباً حتى الوصول الى الأدغال … يبقى الشَمال، و الشمال كان المعبر بين مصر القديمة و بين حاضرنا اليوم .. ذلك لأن اول كتابات وصلتنا عن مصر القديمة كانت من هيرودوتس (المؤرخ اليوناني الأشهر).

ما كتبه هيرودوتس كان بداية النظر الى حضارة مصر القديمة (و قد كان عمرها في عصر هيرودوتس قد تعدى آلاف السنوات)… لكن ما كتبه الرجل لا شك لم يكن بداية النظر من مصر، من داخل البلد الى نفسها … هيرودوتس فتح الأبواب امام العالم ليرى مصر، لكن الأبواب الداخلية، في مصر نفسها، كانت قد فُتحت، ثم شُرِعت، ثم أغلقت. و كان ما صاغه المصريون في حضارتهم في ذلك الزمان البعيد خارج معرفة هيرودوتس و عليه لم يكن فيما نقله.

لكن هناك أصوات أخرى، أيضا من اليونان الهيلينية، كتبت عن مصر القديمة و إن كانت مصادر معرفتها مجهولة. و الإفتراض ان هولاء قد كتبوا عن رؤية و تماس. و كان أهم و أشهر هؤلاء فيثاغورس (عالم الرياضيات الذي يعرفه أغلبنا من حصص الهندسة في المدرسة، كما انه من أهم مؤسسي علم الموسيقى) .. لكن ما وراء النظريات، سواء الهندسية او الموسيقية، فلسفة واسعة تقوم على الأرقام كتعبيرات كونية عن الوجود كموجات، و على العلاقة بين تلك التعبيرات كقواعد حاكمة في الكون – و الكثير من تلك التعبيرات وجد طريقه الى الفلسفة الحديثة و الى الفيزياء الحديثة (خاصة الكوانتم، و هي حتى الآن الفهم الإنساني الأرقى و غالباً الأصح لطبيعة الكون).

اللافت في المدرسة الفيثاغورسية ان الفكر يعتمد بشكل رئيسي على التصويرات الهندسية كتطبيقات للقواعد الحاكمة في الكون. و في الوصف الواصل لنا، فان فيثاغورس هنا تلميذ في المدرسة المصرية حيث الهندسة المطبقة في الهياكل الكبرى (المعابد العملاقة) تعبير عن نفس تلك القواعد السائدة في الكون نفسه .. هنا، فيثاغورس و مدرسته، حسب الناقلون، فرع من أصل مصري .. لكن الفرع قد وصلنا مقطوعا و الأصل لا تبقى منه سوى الهياكل الصامتة.

بعد قرون عدة، جاء رياضيون (و بالذات مهندسون)، من شمال أبعد (خاصة فرنسا)، و كتبوا عن العلاقات الهندسية و القواعد الفيزيائية في الهياكل العظمى للحضارة المصرية القديمة، و شرحوا كيف ان هذه العلاقات (في أسس المعابد و تشكيلها، و بين الابعاد و الزوايا و المقاسات، كما في داخل الرسومات و التشكيلات الهندسية على الجدران و الاسقف) تجسيد لمفاهيم رياضية حاكمة في الظواهر الكونية (و أشهرها على سبيل المثال، المتوسط الذهبي).

بعض الفرنسيون أصبح تقريبا كهنة جدد عصريون في معابد شُييدت منذ آلاف الاعوام. و بعض هؤلاء الكهنة الجدد (أساتذة علوم تطبيقية حديثة في جامعات غربية عريقة) بدأوا يُعَبروا عن ما يقفوا امامه بما يقترب من التقديس.

و في كل ذلك – قصص هيرودوتس، تواترات المدرسة الفيثاغورسية، او الكتابات الحديثة في القرن العشرين - يكبر اللغز، لا يُحل.. كيف كانت البداية في مصر، ما المعاني القابعة وراء تلك الحضارة المهولة .. قد تكون القصص و التواترات ناقصة، مجرد بعض من كل .. و قد تكون تفسيرات الرياضيين الأوروبيين في المائة عام الماضية ركض ابعد من طاقة المعطيات المؤكدة الظاهرة في التشييد المصري .. و قد تكون التفسيرات الأخذة من الفيزياء الكوانتم و الواصلة بما هو ظاهر من الأفكار و التعبيرات الرياضية المصرية فيها من الفلسفة ما هو زائد بعض الشئ .. لكن بلا شك، لمن عرف (و لو قليل)، فإن الأفكار البسيطة حول عبادة المصريون لمظاهر الطبيعة و بعض الحيوانات من خلال تصورات بدائية للكون و علاقته بالإنسان، و ان المباني العظيمة كانت مجرد للدفن، و غير ذلك، كله يبدو (في أفضل الأحوال) جهل.

لذلك، تبقى الهياكل البنائية العملاقة في مصر شمالا و جنوبا، و دائماً حول وادي النيل، واقفةً دليلاً على علم عميق، ليس فقط قد كُتِب علي هذه الهياكل، بل تجسد فيها … كل هذا يجعل مصر القديمة، خاصة في عصورها الأولى، لغزا جليلا .. و الجلالة من معرفة الدارسين انهم امام ما كان يوما ما جسراً بين المادي و الروحي، وصل المعاني الفلسفية بالقواعد الرياضية الظاهرة (و المتكررة في الكون)، و جَسَد ذلك الوصل في جمال بنائي، شُيد حول نهر النيل الحاضن لتلك الحضارة المهولة التي قامت على أرض مصر، في أول التاريخ المُسَجل.