لماذا كان الكمال في البداية، ثم أعقبه نزول تدريجي. ثم كيف كانت البداية. نحن لا نعرف شيئا واضحا عن لحظة البدء و مرحلة الانطلاق الأولى للحضارة في مصر .. لكننا نعرف أنها كانت الإشعاع الأكبر في محيطها الواسع، شرقا الى أواسط الهلال الخصيب حيث ينتهي تأثير شرق البحر الأبيض المتوسط و تظهر معالم حضارة ما بين النهرين، غربا الى غياهب الصحراء بعد انقطاع أثر المستوطنات الرومانية في شمال ليبيا، و جنوباً حتى الوصول الى الأدغال، بداية افريقيا الحقة … يبقى الشَمال، و الشمال كان المعبر بين مصر القديمة و بين حاضرنا اليوم .. ذلك لأن اول كتابات وصلتنا عن مصر القديمة كانت من هيرودوتس (المؤرخ اليوناني الأشهر).

هيرودوتس جاء الى شمال مصر ثم ذهب الى الجنوب، الى الأصول. نحن نعرف انه وقف امام معبد الأقصر و سار في الكرنك (مبهورا، حسبما تعبر كلماته). ليس واضحا اذا كان قد ذهب أبعد، كما انه ليس واضحا ما اذا كان قد جال خارج المراكز الكبرى للحضارة المصرية القديمة .. بغض النظر عن تقاصيل الرحلة، فإن ما كتبه كان بداية النظر الى حضارة مصر القديمة (و قد كانت في عصر هيرودوتس قد أصبحت قديمة)… لكن ما كتبه الرجل لا شك لم يكن بداية النظر من مصر، من داخل البلد الى نفسها … هيرودوتس فتح الأبواب امام العالم ليرى مصر، لكن الأبواب الداخلية، في مصر نفسها، كانت قد فُتحت، ثم شُرِعت، ثم أغلقت. و كان ما صاغه المصريون في حضارتهم في ذلك الزمان البعيد خارج معرفة هيرودوتس و عليه لم يكن فيما نقله.

لكن هناك أصوات أخرى. أيضا من الشمال، أيضا من اليونان الهيلينية. أصوات كتبت عن مصر القديمة و إن كانت مصادر معرفتها مجهولة. الإفتراض ان هولاء قد كتبوا عن رؤية و تماس. لكننا لا نعرف، ليس لان هؤلاء لم يقولوا، لكن لان ما قالوه لم يصلنا. ضاع في التاريخ … لكن ما قد سُجِل كان تواترات عن معارف، و قد كُتِب ان تلك المعارف مصرية .. ليس فقط مستوحاة من أصول مصرية، بل مصرية لدرجة أن تلك المعارف سُجِلت في اليونان بأسماء مصرية. و كان أهم و أشهر تلك المعارف التي وصلتنا كتواترات، المدرسة الفيثاغورسية.

فيثاغورس عالم رياضيات يعرفه أغلبنا من حصص الهندسة في المدرسة. لكن ما وراء النظريات الهندسية فلسفة واسعة تقوم على الأرقام كتعبيرات كونية، و على العلاقة بين تلك التعبيرات كقواعد حاكمة في الكون، من تجلياتها قواعد الفيزياء التي استطاع العلم الحديث شرحها في القرن الماضي .. لكن تبقى التفسيرات (وراء الشروحات) مفتوحة، علما واسعا تتداخل فيه الفيزياء الحديثة (خاصة الكوانتم، و هي حتى الآن الفهم الإنساني الأرقى لطبيعة الكون) مع الفلسفة.

في المدرسة الفيثاغورسية هناك شروحات للعلاقات بين القواعد الفيزيائية و بين المعاني التي تعبر عنها تلك القواعد. و اللافت ان أسلوب فيثاغورس يعتمد بشكل رئيسي على التصوير الهندسي لتلك المبادئ، لكن ليس ككونها علوم نظرية، لكن كتطبيقات للقواعد (و المعاني) الحاكمة في الكون. و في الوصف الواصل لنا، فان فيثاغورس هنا تلميذ في المدرسة المصرية حيث الهندسة المطبقة في الهياكل الكبرى (المعابد العملاقة، خاصة الأقصر و الكرنك) تعبير عن الهارمونية السائدة في الكون نفسه .. هنا، فيثاغورس و مدرسته، حسب الناقلون، فرع من أصل مصري .. لكن الفرع قد وصلنا مقطوعا و الأصل لا تبقى منه سوى الهياكل.

بعد قرون عدة، جاء رياضيون (و بالذات مهندسون)، من شمال أبعد (خاصة فرنسا)، و كتبوا عن العلاقات الهندسية و القواعد الفيزيائية في الهياكل العظمى للحضارة المصرية القديمة (مرة أخرى خاصة في الأقصر)، و شرحوا (بتفصيل كبير) كيف ان هذه العلاقات (في أسس المعابد و تشكيلها، و بين الابعاد و الزوايا و المقاسات، كما في داخل الرسومات و التشكيلات الهندسية على الجدران و الاسقف) تجسيد لمفاهيم رياضية حاكمة في الظواهر الكونية (مثل المتوسط الذهبي، و ذلك مثل واحد مما هو اكثر كثيرا و أعمق).

بعض الفرنسيون تفلسف (و لا عجب، فما عرفوه مثير). أخرون سجلوا ثم ذهبوا. و البعض بقى في مصر، او أصبح زائر دائم التردد، تقريبا كهنة جدد عصريون في معابد حقيقية، مع فارق أن الكهنة الجدد عاشوا في القرن العشرين، بينما المعابد شُييدت آلاف الاعوام قبل ذلك. و بعض هؤلاء الكهنة الجدد (أساتذة علوم تطبيقية حديثة في جامعات غربية عريقة) بدأوا يُعَبروا عن ما يقفون امامه بما يقترب من التقديس.

سواء في التوترات التي وصلتنا من المدرسة الفيثاغورسية او الكتابات الحديثة من أساتذة رياضيات في القرن العشرين، يكبر اللغز، لا يُحل.
كيف كانت البداية في مصر، ما المعاني و ما القناعات القابعة وراء تلك الحضارة المهولة .. بلا شك، لمن عرف (و لو قليل)، فإن الأفكار البسيطة حول عبادة المصريون لمظاهر الطبيعة و بعض الحيوانات من خلال تصورات بدائية للكون و علاقته بالإنسان، و ان المباني العظيمة كانت للدفن، و غير ذلك، كله يبدو (في أفضل الأحوال) جهل.

و اذا كانت بعض الأصوات الأوروبية الحديثة التي درست مصر القديمة لعقود قد كتبت ما هو امامنا الآن (و بعض ما كتبته شطحات خيال - و بعض الخيال كان في التاريخ بدايات الحقيقة)، فان الأصوات التي درست مصر في وقت قريب من عصرها – مرة أخرى في اليونان الهيلينية – لم تصلنا مما كتبت غير تواترات.

لذلك، تبقى الهياكل البنائية العملاقة في مصر شمالا و جنوبا، و دائماً حول الوادي المقدس لنهر النيل، واقفة دليلا على علم عميق، ليس فقط قد كُتِب علي هذه الهياكل و المباني، بل تجسد فيها … كل هذا يجعل مصر القديمة، خاصة في عصورها الأولى، لغزا جليلا .. و الجلالة من معرفة الدارسين انهم امام ما هو أعظم كثيرا من التفسيرات البسيطة. و الغالب ان جزءا من العلم في مصر القديمة كان جسراً بين المادي و الروحي، وصل المعاني الفلسفية بالقواعد الرياضية الظاهرة (و المتكررة في الكون)، و جَسَد ذلك الوصل في جمال بنائي، شُيد حول نهر النيل الحاضن لتلك الحضارة المهولة … مصر القديمة لم تكن الوحيدة التي شيدت جسورا (من هياكل كبرى) تربط الفكر بالفعل، و تربط المادي بالروحي، و تنقل ما رآه المصريون في السماء (الفلك) على الأرض .. كما انه ليس مهما اذا كانت مصر اول من شيد. ذلك التهافت على لفظ “أول من” دليل نقص … المهم ان مصر القديمة كانت من أعظم من بنى تلك الجسور، من أعظم من صاغ و جَسَد المعرفة الإنسانية.

قد تكون التواترات التي وصلتنا من المدرسة الفيثاغورسية ناقصة، مجرد بعض من كل .. و قد تكون تفسيرات الرياضيين الأوروبيين في المائة عام الماضية ركض ابعد من طاقة المعطيات المؤكدة الظاهرة في التشييد المصري .. و قد تكون التفسيرات الأخذة من الفيزياء الكوانتم و الواصلة بما هو ظاهر من الأفكار و التعبيرات الرياضية المصرية فيها من الفلسفة ما هو زائد بعض الشئ .. احتمال .. لكن في كل الأحوال، فإن السرد العام حول تلك الحضارة يبقى ليس فقط ناقصا، بل بسيطا الى درجة القبول بالجهل .. و الخسارة هنا ليست لمن بنى و شيد، بل لمن لم يسير في طرق المعرفة ليصل و لو لقليل من ما تنقله و تجسده تلك الهياكل الحاضنة لعلمٍ عظيم، الواقفة على الوادي المقدس للنيل.