١٩٨٩ …سقوط حائط برلين الذي فصل لعقود بين شرق و غرب العاصمة الألمانية…كانت بداية الحُلم الأوروبي الحديث: اللحظة التي تأكد فيها ان الشيوعية زائلة من أوروبا، ان وسط و شرق القارة في طريقهما الى الديمقراطية الليبرالية (عقيدة الغرب السياسية)، و ان تلك اللحظة التاريخية قد تكون بداية احياء المشروع الأوروبي الاوسع: المسير نحو وحدة تجمع كل دول القارة تحت الرؤية السياسية و الاجتماعية التي سارت عليها دول أوروبا الكبرى (و بالذات ألمانيا الغربية) منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية و حتى تلك اللحظة.

الحلم بدى حقيقة تتشكل في الواقع عندما تساقطت النظم الشيوعية و السلطوية في اوروبا، واحدة بعد الأخرى، و سقطت كلها بدون عنف (باستثناء رومانيا) و بدون تدخل من الاتحاد السوڤيتي، الذي كان، هو الأخر، في طريقه الى الزوال.

الحلم الأوروبي ايضاً بدى سباقًا خاصة عند مقارنته، وقتها، بالأخرين: أمريكا خرجت منتصرة من الحرب الباردة و على رأس النظام العالمي الجديد، و لكنها في نفس اللحظة وقتها، بدت منهكة. روسيا (وريثة الاتحاد السوڤيتي) كانت في واحدة من أضعف حالتها. الجار الجنوبي و “الأخر” في الوجدان الاوروبي (الشرق الأوسط و العالم العربي) ظهر و كأنه ينتمي الى غياهب التاريخ مقارنة بالوضع الاجتماعي و الإنجاز السياسي في أوروبا. حتى الصين التي كانت وقتها في بدايات صعودها بدت، بعد مجزرة ميدان تينانمين في صيف ١٩٨٩، مثال واضح للقمع مقارنة بالحريات و الانفتاح الفكري في أوروبا.

اليوم، بعد ثلاثين سنة، اوروبا تبدو بعيدة جداً عن هذا الحلم. و الأسئلة التي تُلِح على سياسي القارة و مُفكريها هي: ماذا حدث؟ ما الذي ضاع؟ وكيف ضاع؟

هناك آراء متعددة … لكن ثلاثة تفسيرات تستحق التوقف أمامها.

الأول يدور حول الاقتصاد. لا شك ان الانهيار الاقتصادي في ٢٠٠٨ و عدم قدرة النظام المالي (و معه النظام السياسي…و لعلهما وجهان لنفس الشئ) على إحداث تغيرات جذرية في الأوضاع و المفاهيم التي أخذت الاقتصاد الدولي الى حافة الهاوية، أظهر أن هناك “حاجه غلط” في جوهر هذا النظام. و بعيداً عن النظريات و التحليلات للنظام المالي، فإن قطاعات واسعة من الأوروبيين شعروا بهذه “الحاجة الغلط” بدون أن يعرفوا كيف يوصفوها. و كان رفضهم، من خلال انتخابات متعددة، للأحزاب الأوروبية الكبرى دليلًا واضحاً على غضبهم من الأسس التي قامت عليها أوروبا بعد انتهاء الحرب الباردة.

التفسير الثاني لا يتعارض مع الأول، و لكنه يوسعه…هذا التفسير الثاني يقول ان لحظة الحُلم في ١٩٨٩ كانت سياسية بالدرجة الأولى، و ليست اقتصادية. بمعنى ان النصر الغربي في الحرب الباردة كان نصرًا للفكرة الليبرالية اكثر منه نصراً للرأسمالية. و هذا الرأي يستند على تنوع درجات انفتاح السوق و درجات تنظيمه و دور الدولة فيه، بين دول أوروبا الغربية المختلفة. و فيه مثلاً، ان الأحزاب الاشتراكية حكمت دول أوروبية محورية، مثل إيطاليا و فرنسا، لفترات طويلة اثناء الحرب الباردة. و على ذلك، فإن الفشل الأوروبي في استثمار لحظة النصر و الحلم، كان بسبب ربط الليبرالية الاقتصادية بالليبرالية السياسية. أي انه في هذا التفسير، فإن المجتمعات الأوروبية (بالذات في وسط و شرق أوروبا) التي جاءت الى الغرب في التسعينات، أتت بطموحات للحرية بعد عقود من القهر و السلطوية أكثر ما أتت طالبة انفتاح اقتصادي يسود فيه مفهوم السعر، و بالضرورة، يتغير فيه العقد الاجتماعي بين الدولة و المواطن.

التفسير الثالث أبسط من الأخريين، و لكنه مهم، و دال على الكثير. في هذا التفسير، لحظة ١٩٨٩ مَثَلت ذهاب وسط و شرق أوروبا الى الغرب…”Go West”، كما قيل وقتها في مقالات و كتب، و حتى أغاني أشتهرت في بدايات التسعينات. لكن هذه المجتمعات في الوسط و الشرق تصورت انها تأتي للأخوة في الغرب على قدم المساواة. لكن الثلاثين عاماً الماضية اثبتت ان أوروبا ابعد ما تكون عن هذه المساواة…أي أنه في هذا التفسير، فإن المشروع الأوروبي نفسه، و في قلبه الإتحاد الأوروبي، قام على تصور غربي (ألماني-فرنسي بالذات) للقيم، المعاني، الأهداف ..و كان على من أتوا من الوسط و الشرق ان “يسمعوا الكلام” و ينفذوا. و قد كان لعدد من السنوات طالت كل التسعينات و العقد الأول من الألفية الثانية. لكن، في هذا التفسير، فإن هذه المجتمعات في الوسط و الشرق قد ضاقت الآن تماما بالاستماع الى محاضرات الغرب و بدأت تصوغ فكرتها هي لمستقبل اوروبا.…لكن الابتعاد عن قلب الفكرة الأوروبية، كما صاغتها فرنسا و ألمانيا في نهايات الحرب الباردة و في لحظة النصر الغربي في ١٩٨٩، كان معناه الابتعاد عن الأسس التي بُني عليه هذا النصر و التي صيغ بها الحُلم.

الآن، أوروبا قلقة…و في قلقها هي لا تبحث عن حلم جديد، بقدر ما تحاول الهروب من كابوس…كابوس ان مستقبلها حامل غضب من ماضيها القريب، و ربما رفض قوي لما تصوره اهم سياسها اهم انتصاراتها.