حوار عنا في واشنطن
كثيرة مؤسسات البحث في الولايات المتحدة ، خاصة في واشنطن . و وسط الزحام تتسابق تلك المؤسسات للحصول على الدعم ، المادي بشكل رئيسي ، كما تتسابق للوصول الى دوائر اتخاذ القرارات الإستراتيجية . السباق غالبًا هادئ ، بمعنى ان هذه المؤسسات رزينة في أغلب الأحوال ، و نادرًا ما تضع أفكار ثورية على ما هو متفق عليه كأسس و أهداف و طرق رئيسية للعمل السياسي الأمريكي .
لكن احيانًا تخرج بعض المؤسسات بأفكار من ذلك النوع الثوري . و قد حدث ذلك مؤخرا ، من دار بحث قريبة من الحزب الديموقراطي . الفكرة كانت عن دور الولايات المتحدة في العالم العربي ، و النتيجة التي حاول كاتبوا البحث توضيحها هي انه على الولايات المتحدة الخروج السريع من كل المنطقة .
أمريكا بالفعل تقلل و بشكل ملحوظ من تواجدها خاصة العسكري في كل المنطقة ، سواء في شمال افريقيا او شرق البحر الابيض المتوسط او حتى الخليج . لكن التقليل الأمريكي مختلف في سرعته و في أهدافه عن ما رمى اليه ذلك البحث من ضرورة خروج سريع .
و الطبيعي ان مثل تلك التقارير الثورية تنتهي في دوائر بحث محدودة الحجم و التأثير . لكن لأن دار البحث وراء التقرير قريبة من الحزب الحاكم و الإدارة الحالية ، جاءت ردود قوية على التقرير ، و اللافت انها جاءت من قمة البنتاجون (وزارة الحربية الأمريكية) و على لسان عدد من أهم قادتها و منهم قائد المنطقة المركزية (و فيها تقريبًا كل الدول العربية) و ايضًا قائد المنطقة الأفريقية ، و هي أحدث قيادة في هيكل العمل العسكري الأمريكي .
الردود المتتالية مهمة و كلها تتصارع فكريًا حول أهمية المنطقة العربية للولايات المتحدة الامريكية في العقدين القادمين . و بين الردود من يرى ان الشرق الأوسط و الخليج و بعض الأماكن في شمال افريقيا مازال لهم أهمية كبرى في الإستراتيجية الأمريكية ، حتى مع التراجع القادم لدور البترول في أسواق الطاقة ، خاصة في ظل ازدياد النفوذ و التواجد الروسي في المنطقة ، و خاصة مع الصعود الصيني و ترقب محاولة الصين بناء وجود سياسي و ليس فقط اقتصادي في العالم العربي . في المقابل ، لكاتبي التقرير اراء مغايرة تنقض تلك و ترى نقوصا كبيرًا لأي دور هام للمنطقة العربية في هيكل و شكل المصالح الأمريكية في المرحلة القادمة .
لكن ما يلفت النظر في كل تلك الحوارات هو ان كل ما كتب و قيل فيها عن المنطقة العربية ، من الناحيتين ، يصورها خامدة من الفعل الاستراتيجي . بمعنى ان الآراء المتباينة تضع تصورات مختلفة حول النمو الاقتصادي في الدول المهمة في المنطقة العربية ، حول الأوضاع الاجتماعية ، و منها مستقبل دور الدين في مجتمعاتنا ، و حول احتماليات تعاون باشكال مختلفة بين تلك الدول العربية و الصين او روسيا ، و حول ازدياد او تراجع أهمية موجودات مثل قناة السويس و مضيق هرمز و جنوب البحر الأحمر و غيرهم .. لكن هناك غياب تام لفكرة ان الناس الموجودة في تلك الدول يمكن ان تغير من توجهاتها الاستراتيجية ، مثلا بقرارات تحول تلك التوجهات – سياسيًا و اقتصاديًا – بشكل مختلف عن ما كانت عليه في النصف قرن الماضي ، و ان تكون تلك التحولات نابعة من دراسات واعية راشدة و ليس من مجرد تعبيرات او انفلاتات لمشاعر .
غياب تلك الفرضيات دال ، لأنه يوضح قوة التصور ان منطقتنا بلا قدرة على العمل الاستراتيجي النابع من المجتمعات نفسها .. او ان مجتمعاتنا بلا إرادة واعية رصينة اختزنت تجارب طويلة و أصبحت قادرة على وضع تلك الإرادة محل الفعل بشكل ناضج .. و عليه ، في هذه النظرات لنا ، ان أهم المؤثرات في مستقبل المنطقة هي تفاعلات السياسات الخارجية للدول الكبرى مع متغيرات العوامل الاقتصادية – و لكن ليس أفكار و رؤى و تجارب و طموحات مجتمعات المنطقة .
ذلك الغياب خاص بنا ، ذلك ان الغالبية الساحقة من الدراسات الجادة عن مناطق أخرى من العالم دائمًا تأخذ في الاعتبار – و بأهمية كبرى – الأفكار الرئيسية الدائرة في مجتمعات تلك المناطق و تفاعلها مع قدرات تلك المجتمعات ، و كيفية يمكن ان تتحول الى تعبيرات عن ارادات تلك المجتمعات .
هذه الملاحظة مهمة ، ليس فقط من ناحية ما تقوله عن رؤية دوائر مؤثرة جدًا في الغرب لنا ، و عليه في ما تعنيه من سياسات نحونا - و لكنها ايضًا مهمة لأنها تدعونا للتفكير في لماذا تكونت هذه الرؤية عنا . لماذا هذه القناعة و الثقة بأن فكرة الagency - القدرة على الفعل و التغيير و التأثير الجاد في مجريات التاريخ – غائبة عن مجتمعاتنا .
الموضوع ابعد كثيرًا من مجرد رؤى قديمة متأثرة بأفكار استشراقية .. عمق الموضوع عندنا ، لأن أغلب المشاكل الحاصلة في مجتمعاتنا نابعة من الداخل بأكثر كثيرًا مما هي مفروضة من الخارج .