اذا وصلنا اننا امام مشروع و ليس تجربة (راجع الجزء ٣ من هذه السلسلة)، فالسؤال التالي هو: الى ماذا كان يهدف هذا المشروع؟

الفكرة الجوهرية وراء كل التحركات السياسية في العالم العربي (و اسيا و افريقيا) منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية كانت: التحرر.

التحرر من الاستعمار الأوروبي، و لكن أيضا من الهياكل السياسية و الاقتصادية و الأمنية التي ظهرت في إطاره و عملت معه و استفادت من وجوده. هذه نقطة مهمة لأن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية بدت ذاهبة طبيعيا نحو تراجع للدول الأوروبية و انسحابها من أغلب مستعمراتها. ليس فقط بسبب المشاكل الاقتصادية الكبرى التي مرت بها أوروبا بعد الحرب، و لكن أيضا، و ربما أهم، لأن إرادة إبقاء الإمبراطوريات كانت في تراجع و ضعف في كل انحاء أوروبا بما في ذلك في بريطانيا و فرنسا.

و لم يكن ذلك سراً. بل بدا واضحاً من خلال نتائج الانتخابات، بسقوط اهم الأحزاب اليمينية المحافظة في أوروبا، و صعود قوى اليسار التي كانت في أغلب الأحوال ضد المفهوم الامبراطوري لدولها (و ذلك مرتبط بالاقتصاد السياسي لهذه الدول نفسها، و هي من قبل و من بعد، دول ذات مجتمعات طبقية).

ذلك ما دفع حركات سياسية مختلفة في آسيا و افريقيا بما في ذلك في العالم العربي، أن تندفع و لديها تصور انها، بإمكاناتها المحدودة قادرة ان تنتصر على الوجود الاستعماري في بلادها. و لعل هناك قول دال منسوب الى رئيس الوزراء الإيراني محمد مُصدق (و هو من قاد محاولة تأميم البترول الإيراني و إخراجه من السيطرة البريطانية) انه “يسمع انين الأسد” (و الأسد هنا كناية عن الإمبراطورية البريطانية).

لكن تلك الحركات السياسية كانت تتصور ان الانتصار على الوجود الاستعماري خطوة أولى، بعدها خطوات أخرى، أهمها الخروج من سيطرة الهياكل الداخلية التي شكلت مع المستعمر قوة الحكم.

قد تبدو هذه النقطة طبيعية و منطقية .. و لكنها واحدة من المشاكل االرئيسية في النظر الى مشروع جمال عبد الناصر .. ذلك أن ضرب أجزاء كبرى من الطبقة العليا المصرية و تفتيت قوتها الاقتصادية كان له اثره ليس فقط على الوضع السياسي في مصر، و لكن ايضاً على التنمية .. و التنمية كانت الفكرة المحورية الثانية بعد التحرر.. ذلك ان الطبقة العليا المصرية وقتها كانت علميا و ثقافيا و من خلال الاتصال بالفكر و التقدم في العالم أكثر المؤهلين لادارة مشروع تنمية حقيقي له فرص نجاح جادة. ضرب هذه المجموعات و انهاء مراكز قوتها أدى الي حرمان الدولة من لفيف من أفضل العقول و القدرات فيها. و الذي حدث فعلاً ان الجزء الأكبر من (اذا لم يكن كل) هذه المجموعات خرجت من دوائر إدارة الدولة، و بعضها خرج من الدولة كلها الى الخارج.

أحد المعضلات الرئيسية في قراءة التاريخ بعد عقود، هو رؤية الأمور بعيون ما قد حدث، و ليس بعيون اللحظة التاريخية وقتها. و لعل هنا نقطة اختلاف كبرى بين تقديس جمال عبد الناصر و ادانته (راجع الجزء الأول من السلسلة). ذلك ان جزء من تقديس الرجل يكمن في ولائه الدائم للطبقات الفقيرة و ادنى الوسطى، كما يكمن في كبريائه الذي رفض أية مساومات كبيرة مع الغرب .. لكن أيضا جزء من ادانته يقوم على عدم تقديره لمناطق الضعف الكبرى في العقول و القدرات التي أحاطت به (و العيب ليس في هذه العقول، و لكن الضعف كان نتيجة لمحدودية تجربتها و اطلاعها و معارفها). كما ان أيضا جزء من المشكلة هنا يكمن في عدم تقديره لحجم الخسارة لمشروعه (و بالطبع للبلد) من فقدان اتصال جاد و حقيقي مع مواطن العلم التنفيذي (و ليس النظري) و الكفاءة و التقدم في الغرب .. و لعل هذه النقطة كامنة في جوهر اختلاف تجربة مصر (و من بعدها عدد من الدول العربية) عن تجارب دول مثل كوريا الجنوبية (كانت في بدايات الستينات في مستويات اقتصادية و اجتماعية مع او ادنى من تلك في مصر).

اذن اذا كان جوهر المشروع هو التحرر ثم التنمية، و اذا كان للتحرر وقتها معاني مختلفة، و كان له تبعات مختلفة (بما في ذلك على التنمية) فالسؤال التالي يكون: كيف تبلور مشروع جمال عبد الناصر في بداياته ليمزج التحرر و التنمية – او ما تصورهما كذلك؟