سِفر الخروج الأمريكي من الشرق الأوسط
تكررت الكلمات كثيراً…الوليات المتحدة تدرس تقليل تواجدها في الشرق الأوسط، بمعنى ان اداراتها المتعاقبة عبَرت عن مشاكلها الكثيرة مع، و في، هذه المنطقة من العالم، بالتساؤل عن جدوى استثماراتها السياسية و بالذات العسكرية، في العالم العربي، خاصة مع تزايد تكاليف اعباء الحرب في العراق…لكن، مع ذلك، يبقى الوجود الأمريكي و يزيد و يتوسع.
هذه المرة، هناك تفكير، عالي الصوت الآن في واشنطن، يدعو لتراجع كبير في الوجود في الشرق الأوسط. هذا التفكير قائم على خمسة أسباب.
السبب الأول، ان الكثيرين في الوليات المتحدة يرون ان العالم يدخل مرحلة جديدة، بانتقال الثِقل الاقتصادي (سواءاً في الإنتاج او الاستهلاك، و هو المُحرك الرئيسي للتجارة) من سواحل المحيط الاطلنطي الى الباسيفيك. و عليه، فان الكثير من العقول الأمريكية تعيد، الآن، النظر في ثوابت الاستراتيجية الأمريكية في الربع قرن الماضي (منذ انتهاء الحرب الباردة). و من ضمن هذه الثوابت أهمية التواجد في العالم القديم (اوروبا و العالم العربي) في مقابل التواجد في آسيا. و الرأي (او أحد أعلى الأراء صوتاً) هنا انه اذا كانت حماية اوروبا (بالذات امام روسياً) من أعمدة السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فان حماية الحلفاء في العالم العربي ليست بنفس الأهمية.
و هذا يأخذنا للسبب الثاني. ليس فقط ان هناك تقدم مهول في تكنولوجيات و اقتصاديات الطاقة المتجددة، و لكن أيضاً هناك وفرة (لم تكن متوقعة منذ سنوات قليلة) في مصادر البترول و الغاز، و منها مصادر البترول الصخري (و الوليات المتحدة واحد من اهم منتجيه). و نتيجة لتلك العوامل، فانه، من وجهة نظر أمريكية، كل ذلك يؤدي الى تراجع كبير في أهمية البترول العربي (و هو السبب الأول الذي جذب الوليات المتحدة الى الشرق الأوسط لعقود طويلة).
السبب الثالث، ان الدواعي العسكرية الغير متعلقة بالبترول، للوجود الأمريكي في الشرق الأوسط، ايضا اقل اهميةً الآن عما كانت عليه لعقود…و اهم هذه الدواعي هو تأمين الوجود الاسرائيلي في الشرق الأوسط. و التغيُر الذي حصل هو ازدياد القدرات الاسرائيلية – سواءاً العسكرية او التكنولوجية – بقدر يجعل الدولة، في التقدير الاستراتيجي الأمريكي، على درجة عالية من الأمن و الأمان.
السبب الرابع متعلق بما يُعرف ب decision making optimisation ، او تغليب أولويات معينة على أخرى في توظيف المصادر و الموارد. و النقطة الرئيسية هنا هي انه، في تقدير عدد من الأصوات المهمة العاملة في دوائر صنع القرار الأمريكي، فان تحريك الكثير من الموارد الأمريكية لخدمة المصالح في آسيا لن يؤثر على الموقف العام في الشرق الأوسط (حتى مع التوسع الإيراني في شرق المتوسط).
السبب الخامس سيكولوجي، الى حدٍ ما. العديد من الأصوات التي أشير اليها، هي في الأربعينات من العمر…و معنى ذلك، انه بغض النظر عن القراءات في التاريخ، فإن معرفتهم المباشرة بالشرق الأوسط قد نشأت من التجربة الأمريكية في المنطقة، و بالذات في العراق و شرق المتوسط، في العشرين عام الماضية. و هي تجربة، تحت أي تقدير، ليست ناجحة. و الكثير من هؤلاء المفكرون لديهم رؤى تميل الى ان الاوضاع العربية (و بعض الموروثات) عقبة امام التطور نحو الديمقراطية و التقدم الاجتماعي (من وجهة نظر غربية). هم إذن يلومون قوة الدفع التاريخي في العالم العربي (historical momentum and trajectory) بنفس الدرجة التي يلومون بها السياسيات الأمريكية في الشرق الأوسط في العقدين الماضيين. لكن الحاصل، ان هذه الأصوات تريد العمل في مناطق، تراها، مهيئة، لصنع المستقبل، و ليست سجينة للماضي.
كل ذلك لا يعني ان ذلك التيار سوف يسود الحوار الدائر في واشنطن حول مستقبل المنطقة، و أهم المصالح و الصراعات فيها، و مدى التواجد و الالتزام الأمريكي تجاهها. لكن، اتجاهات الريح، تشير الى الدعم الذي يلقاه ذلك الرأي، بالذات في هيئات الأمن القومي الأمريكية (و أهمها البنتاجون). و لذلك، و بالرغم من كل ما يقال حول صفقة القرن و الصراع مع إيران، و غيرها من ملفات، فمن الواجب التفكير في السنوات القادمة من منظور اهتمام (و غالباً تواجد) أمريكي أقل بمنطقتنا، و في ذلك ديناميكيات جديدة… و ربما فرص.
طارق عثمان هو مؤلف Egypt on the Brink، الكتاب الأكثر مبيعاً عن مصر في العالم في العقد الماضي وIslamism: A History of Political Islam، الصادرين عن دار نشر جامعة ييل الأمريكية، ومؤلف ومقدم عدد من السلاسل الوثائقية لـBBC البريطانية.