الحلقة السابقة من هذه السلسلة دارت حول معنى فشل الوحدة مع سوريا، و دلالاته على أسلوب العمل الذي بدأ يظهر وقتها. حلقة اليوم عن نجاح، في الفكر و في أسلوب العمل.

معركة الجزائر لم تكن اعمال فدائية ضد جيش (فرنسي) محتل. فرنسا رأت الجزائر (على عكس رؤيتها للمغرب و تونس) على انها جزء من فرنسا، و قد كانت هناك أسباب اخترعتها نخبة مفكرة فرنسية وراء هذا التصور، ثم دخلت تلك الأسباب في الوجدان الفرنسي. بالإضافة الى ذلك، فإن نوع الوجود الفرنسي في الجزائر كان مختلفاً عن أي وجود أوروبي أخر في كل المنطقة العربية. من ناحية الحجم، كان كبيراً، خاصة بوجود آلاف المزارعين و المستوطنين، و منهم من بقى لأجيال متعاقبة. من ناحية النوع، كان الوجود مميزا، بعدد من أهم قادة الجيش و بعدد من المثقفين الفرنسيين الذين بدأوا حياتهم في الجزائر و بقوا على اتصال وثيق بالمجتمع الفرنسي فيها.

لذلك فإن تحرير الجزائر احتوى على عمل سياسي داخل و خارج البلد، بما فيه في فرنسا .. مثلاً احتوى على عمل ثقافي، قام على تأكيد الهوية العربية و تثبيت اللغة العربية في المجتمع .. و على وصل الأرض الجزائرية (و هي شاسعة) بغربها و شرقها، و ليس فقط بالساحل الشمالي للبحر الأبيض المتوسط.

تلك الابعاد المختلفة أعطت التحرير المعنى الحقيقي لكلمة معركة: فكرة الصراع بأوجه و على نطاقات مختلفة.

بالإضافة الى ذلك، فإن الصراع من أجل تحرير الجزائر قابله صراع من أجل البقاء. ليس فقط لأن المصالح الاقتصادية هناك كانت مهولة و متجذرة، لكن أيضا (و أهم) لأن الوجود الفرنسي في الجزائر كان داخلاً في رؤية قطاعات واسعة من الفرنسيين لبلدهم. لذلك مع استمرار معركة التحرير و بيان الإصرار الجزائري على المضي فيها بالرغم من فداحة التكاليف (و أهمها في الروح و الدم)، تحولت المعركة الى صراع حول رؤى مختلفة لعلاقة فرنسا بالعالم. و بحكم أهمية فرنسا وقتها لاوروبا بشكل عام، أصبحت معركة الجزائر جرح مفتوح في الوجدان الأوروبي.

هنا تكمن أهمية وقوف المشروع الناصري بجانب حركة التحرير الجزائرية، و المساعدة في إعلاء صوتها و إيصاله الى كل ارجاء العالم العربي، و التأكيد على ان ذلك الصراع الدائر في جزء قد يبدو قصي من العالم العربي، له أهمية كبرى على مستقبل ذلك العالم.

كما ان وقوف المشروع الناصري بجانب الجزائر وسع من تفسيره لمعنى التحرر (و الذي كما حاولت ان أوضح في حلقة سابقة من هذه السلسلة، تطور ليصبح في قلب ذلك المشروع). في هذا التفسير الأوسع أصبحت فكرة التحرر أكبر من مصر و تداخلت مع طموحات شعوب عربية مختلفة للخروج من السيطرة الغربية - و في أحيان وصلت لتؤثِر في رؤية الوجدان الأوروبي لنفسه.

هناك رأي يرى في ذلك تحجيماً للطموحات المصرية الخالصة، بمعنى ان المصالح المصرية لم تستدعي عداءات مع دول غربية مؤثرة، بل كانت حتى وقت قريب من ذلك الزمان شديدة القرب من مجموعات مختلفة في المجتمع المصري .. و ذلك رأي قابل للأخذ و الرد، و لكنه في كل الأحوال محدود في افقه .. بمعنى انه متضارب مع كل المشروعات المصرية التي ارادت أدوار لمصر في محيطها، سواء مشاريع توسع الايوبيين و المماليك او مشروع محمد علي و ابنه إبراهيم او مشروع جمال عبد الناصر .. مرة أخرى، هناك أخذ و رد مع ذلك الرأي الناظر الى مقدرات مصر على انها بالضرورة (و بفعل الجغرافيا) محددة في ارضها، و الذي يرى ايضاً ان قدرات مصر اقل من طموحاتها في الخروج خارج حدودها.. لكن في كل الأحوال ذلك الرأي لم يكن في أجواء نهايات الخمسينات و بدايات الستينات.

و على عكس ما كان فكر و أداء المشروع الناصري في ملف الوحدة مع سوريا ضعيفاً الى درجة الاستغراب، كان الفكر و الأداء معقولا جداً في ملف الجزائر. سواء من ناحية المساعدة المباشرة في المعركة بدون تحمل أعباء كبرى، او المساعدة في صياغة الرسائل الإعلامية و الوصول الى مجموعات واسعة في العالم العربي، لكن بدون الوصول مع فرنسا (و وراءها أوروبا) الى درجة العداء المباشر.

و لعل جزء من الذكاء المعقول في العمل في ذلك الملف كان عدم تصور ان الجزائر (بوزنها الجغرافي و البشري و بحجم تجربتها المهولة في التعامل مع فرنسا على مدى ما يقرب من قرن و نصف) يمكن ان تدخل في مدار مصر. لذلك فإن المشروع الناصري، بالرغم من ما قدمه في معركة الجزائر، لم يضع طلبات مباشرة، لا على قيادة المعركة، و لا بعد ذلك على الجزائر المستقلة. و كان في ذلك بُعد نظر، كان يمكن أن يؤدي الى تقارب سياسي و شعبي كبير .. الا ان الطرق تباعدت بعد ذلك بفعل سقوط المشروع الناصري و اختلافات الرؤى، و بفعل قوى رأت ان تقارب مصري-جزائري يُشكل محور عربي قادر على إحداث تأثيرات في ملفات مختلفة.

مقارنة فِكْر و أداء المشروع الناصري في ملفي سوريا و الجزائر دال على مجال فشل ذريع و على مجال نجاح معقول. كما ان الملفان واصلين بنا الى نقطة أبعد، و هي تعامل المشروع الناصري مع القوى الفعالة وقتها في العالم العربي، و أهمها المملكة العربية السعودية (و هذا حديث الحلقة القادمة).