ست عشرة سنة مدة حكم طويلة في أي بلد ديمقراطي ، و لعلها من الطول بحيث انها تخلق زهق و تجعل كثيرين يريدون جديدًا .. و السياسي الذكي يدرك ذلك فيبتعد حتى ان كان يظن انه ما زال لديه ما يعطيه .. و هذا هو الحال مع انجيلا ميركل التي قررت العام الماضي انها لن تخوض انتخابات سبتمبر ٢٠٢١ ، تاركة لحزبها البحث عن زعيم جديد ليقود الحزب في تلك الانتخابات .

و بالرغم من أهمية انتخابات هذا الشهر التي ستُخرِج ائتلاف حكم جديد ، و مستشار جديد ، في المانيا ، الا ان ابتعاد ميركل يبدو أحيانا و كأنه الحدث الطاغي على الجو السياسي في البلد .

لعل العامل الرئيسي هنا ان في المانيا الآن جيل كامل لم يعرف قائدًا للبلد غير ميركل .. و هذا مهم في حد ذاته ، و لكن في الحالة الألمانية هناك ايضًا ان هذا هو الجيل الأول الذي لم يعش إطلاقًا فترة الحرب الباردة ، و عليه ليس له تجربة ذاتية بمرحلة انقسام المانيا و لا بلحظة توحيد المانيا الغربية و الشرقية في بداية التسعينيات ، و لا بتحديات تلك المرحلة ، و قد كانت وقتها الحدث الأهم في كل أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوڤيتي .

هذا جيل ، في اغلبه ، ينظر لميركل من منظور الآن و الغد ، و ليس من منظور الماضي .. لذلك فإن استطلاعات و حوارات أجرتها جرائد أوروبية هامة تُظهِر اهتمام بتركة ميركل في قضايا التغير المناخي (و هي ذو تأثير مباشر و غالبًا خطير على حياة الأجيال القادمة) و في اوضاع القطاع الصحي في المانيا (و هي في قلب الاحداث منذ تفشي الكورونا) و في الاختلافات الاقتصادية بين الولايات التي كانت قبل توحيد البلد في المانيا الشرقية في مقابل تلك التي كانت في المانيا الغربية .. و في كل تلك الملفات تركة ميركل فيها ما فيها من نجاحات و من فشل .

لكن إخراج الماضي – و بالضرورة التاريخ – من النظر في تركة ميركل قصر في النظر ، و الأهم يحمل اخطار لما قد تحمله السنوات القادمة لألمانيا و لاوروبا . ذلك أن ميركل واجهت تحديات كبرى ، و كان نجاح السيدة ليس فقط دالًا على حكمة و معنى جاد لمفهوم القيادة ، و لكنه كان انقاذ لاوروبا في لحظات بدا فيها مشروع الوحدة الأوروبية على المحك .

اللحظة الأولى كانت الأزمة الاقتصادية الطاحنة في ٢٠٠٨ ، و التي وضعت اقتصاديات بعض دول جنوب أوروبا امام احتماليات سقوط حر ، و ذلك دائمًا مؤدي إلى كوارث اجتماعية . في الشهور التي أعقبت الأزمة بدت عواصم أوروبية – في شمال و وسط أوروبا – على استعداد للتخلي عن بعض دول الجنوب ، و عليه إخراجها من الاتحاد المالي الأوروبي (اليورو) ، لانها غير مستعدة تحمل تكاليف انقاذ اقتصاديات تلك الدول . في تلك الأيام فقط انجيلا ميركل وقفت باصرار و قوة وراء فكرة التضامن الأوروبي ، ليس فقط بمعناه المعنوي و لكن من خلال سياسات وزعت الخسائر و الأعباء على اغلب دول الاتحاد الأوروبي الغنية ، و كانت المانيا (و معها القليل من دول الشمال الثرية) من تحمل اكبر تلك الأعباء .

اللحظة الثانية كانت مع صعود أحزاب اقصى اليمين في تقريبًا كل أوروبا .. و كان (و لا يزال) ذلك تعبيرًا عن غضب شعبي من بعض ما اظهرته الازمة المالية من طغيان رأسمالية عالمية على دوائر صنع القرار في عواصم متعددة و من فروقات مهولة في الأحوال الاجتماعية . و قد تلازم صعود اقصى اليمين الأوروبي مع وصول دونالد ترامب الى الرئاسة الأمريكية ، و مع اختيار بريطانيا (قلعة الليبرالية السياسية و الاجتماعية) ان تبتعد عن المشروع الأوروبي بأكمله ، و كان بعض ذلك ايضًا تعبير عن غضب مكتوم من اسفل المجتمع نحو قمته .. في تلك اللحظة بدت المانيا الحصن الوحيد الباقي لفكرة الليبرالية – و كانت انجيلا ميركل ، بقناعة حديدة قابعة وراء وجه مبتسم و أسلوب هادئ ، السبب في بقاء ذلك الحصن .

و في عز صعود اقصى اليمين و ازدياد الرفض الواضح لأي مظاهر لوجود الإسلام في أوروبا ، قررت ميركل فتح أبواب المانيا امام مليون لاجئ سوري ، بالرغم من تقييمات داخل حزبها بأن ذلك سوف يكون له تداعيات انتخابية خطيرة .. لكن حسابات تلك السيدة كانت قائمة على ما هو أهم و أرقى .

ميركل تترك المستشارية الألمانية و بلدها قائد لا ينازع في أوروبا ، ليس فقط اقتصاديًا و قد كان ذلك لأكثر من أربعة عقود ، و لكن ايضًا سياسيًا . و اذا كان الأمر الأخير نابع ، الى حدٍ ما ، من تراجعات فرنسية على مدى عقود و من اختيار بريطانيا ان تبتعد سياسيًا عن أوروبا ، فإن جوهر الصعود السياسي لألمانيا في الخمس عشرة سنة الماضية نابع من نجاحات انجلا ميركل .

ذهاب ميركل حدث كبير في أوروبا .. و السؤال الآن عن مدى رسوخ تركة هذه السيدة .. هل سيمشي حزبها على نهجها ؟ هل سيجدد الشعب الألماني الثقة في هذا الحزب ؟ ام ان أثر الكبار (الذين يستحقون عن حق ذلك اللفظ) باقي فقط ببقائهم في القيادة ؟