تناول هذا العامود سامانتا باور من قبل .. سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة في إدارة باراك أوباما، و قبل ذلك واحد من أهم من غطوا حرب البلقان في التسعينات، ثم مؤخراً أستاذ في جامعة هارفارد و مؤلفة كتاب عن تجربتها (الصعبة) في القرب من دوائر القرار في البيت الأبيض.

باور ليست قريبة من المجموعات المحيطة بالرئيس المنتخب جو بايدن. و إن كانت الآن مرشحة لمنصبين مهمين في ادارته. و الترشيح قادم من اتجاه يرى ان على بايدن ان يضع فكرة حقوق الانسان في جوهر سياسته الخارجية. و هنا، باور، بحكم مواقف عديدة سابقة على مر ربع قرن، من أبرز الوجوه التي يمكن ان تلعب دور في ذلك الاتجاه (إن تحقق).

لكن الملفت للنظر ان باور خرجت منذ أسابيع قليلة، و في المطبوعة الأهم فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية الأمريكية، بمقال طويل حول فكرة “الممكن” في العلاقات الخارجية الأمريكية.

باور قدمت عدد من الأفكار و التحليلات. لكن هناك فكرة هامة لمستها و هي ان أمريكا قد فقدت الكثير من قدرتها على الفعل.

أهمية هذه النقطة ان الولايات المتحدة كانت لأكثر من قرن القوة الدولية ذات القدرة، شبه الخيالية، على الفعل. او هكذا تصور حلفاءها و أعداءها على حد السواء. لكن ما تراه باور ان أمريكا بدت في أحيان كثيرة في العقد الماضي و كأنها لا تعرف ماذا تريد – لأنها تريد كل شيء - و انها تستخدم أدوات كبيرة، و أحيانا عنيفة، بسبب و بدون سبب و أحيانا كثيرة في غير موضعها. و النتيجة، في تصور باور، تآكل في القدرة الأمريكية.

باور لم تتطرق الى أوروبا و لا الى الشرق الأوسط. كأغلب المفكرين الأمريكيين هذه الأيام، تتركز العيون على الصين. لكن ملاحظة باور جديرة بالاهتمام في عالمنا، لأن ما لمسته حاصل فعلاً في التفكير الاستراتيجي لدينا و حولنا. مثلاً الدعوات الأوروبية المختلفة لخلق قدرة فِعل عسكرية أوروبية مستقلة عن حلف شمال الاطلنطي الذي تقوده الولايات المتحدة، نابعة الى حد بعيد من قلق أوروبي (خاصة في دول غرب أوروبا الثرية) من تصور ان أولويات الولايات المتحدة الآن تبتعد عن أوروبا و عن كل العالم القديم (و هذا صحيح). كما تقوم على تصور أن أدوات الولايات المتحدة على الفعل أصبحت مرهقة، و أن استثمارات الولايات المتحدة في تطوير أدوات جديدة، موجهة بشكل رئيسي للتطورات في آسيا. و النتيجة، في ذلك التصور الأوروبي، ان قدرة الفعل الامريكية في أوروبا، و لصالح اهداف أوروبا، في تراجع.

نفس الشئ الى حدٍ ما يُمكن تحديده في تفكير عدد من الدول العربية التي تعيد تشكيل تحالفاتها في المنطقة. و السبب الرئيسي هو قلق هذه الدول من التزام الولايات المتحدة بأمنهم، و من قدرة الولايات المتحدة على الفعل في حالة خطر حقيقي عليهم.

ذلك القلق الأمريكي على قدرة الفعل ليس جديدا. الحقيقة انه دائماً ما يظهر في لحظات التغير في النظام العالمي. مثلاً كان هناك توتر قريب من ذلك النوع مباشرة بعد حصول الاتحاد السوڤيتي على سلاح نووي و على قدرات للوصول للفضاء، و أيضا في الثمانينات عند ظهور اليابان كقوة صناعية كبرى. و حتى في لحظات بعد انتهاء الحرب الباردة، تصور البعض ان بوصلة الأهداف الأمريكية بدأت تعطي مؤشرات بلا معنى.

في تلك اللحظات كانت هناك مدرستان في التفكير في كيفية إعادة القوة لقدرة الفعل الأمريكية. المدرسة الأولى عسكرية، تركز على نوعيات السلاح الذي تستطيع الولايات المتحدة تطويره للتعامل مع تحديات مختلفة لمصالحها في أماكن مختلفة من العالم و في ظروف مختلفة في تلك الأماكن. المدرسة الثانية كانت دائماً ناظرة الى قوة الولايات المتحدة الناعمة (على حد التعبير الشهير لأحد أساتذة سامنتا باور عندما كانت تدرُس في هارفارد). باور، بالطبع، تنتمي الى المدرسة الثانية. و لذلك فإن ما تُركِز عليه هو القدرات التعليمية و العلمية و الصحية للولايات المتحدة التي يمكن استخدامها خارج حدودها. و بالطبع ايضاً ليس غريبا ان كل ما تقوله باور موضوع في إطار مقارنة مع ما تحاول الصين تقديمه في نفس المجالات.

تصوري ان السنوات القليلة القادمة ستشهد بعثاً جديداً لادوات الفعل الأمريكية غير العسكرية، بداية في آسيا، و خاصة في الحزام المحيط بالصين، و فيه مجموعة من حلفاء الولايات المتحدة المهمين، ثم في مناطق هامة للصناعات المؤثرة في المستقبل (مثلا ما يُعرَف بالتراب النادر و هو من أهم مكونات الكمبيوترات الحديثة)، كما في المناطق الهامة بالتخزين و التوزيع في التجارة العالمية. العالم العربي ليس شديد الأهمية في أي من ذلك. لكن تأثيرات تلك الأدوات للفعل الأمريكي لا شك واصلة الينا، خاصة في ظل المواجهة الاستراتيجية المؤكدة مع الصين.