استقالة مستشار أمن قومي بعد شهر من تعيينه مشكلة، اذ لم تكن فضيحة. هكذا حدث مع مايكل فلاين على إثر تحقيقات ظهرت بعد أسبوعين من دخوله البيت الأبيض. عزل مستشار الأمن القومي الذي تلاه، ماكماستر، بعد اختلاف علني وصل الى حد الإهانة الشخصية مع رئيس الولايات المتحدة، وضح العلاقة الملتبسة بين الرئيس ترامب و أهم مستشاريه، و أظهر أن ترامب عنده مشكلة في التدقيق و الاختيار. الرجل الثالث في المنصب كان جون بولتن، و قد بدا وقتها ان هذا الأسد الكهل القادم من اطراف الحزب الجمهوري، هو الاختيار النهائي، هو المستشار الذي سينسج علاقة متينة مع سيد البيت الأبيض.

بالطبع لم يحدث ذلك، و خرج بولتون مثل سابقيه من البيت الأبيض (بخناقة). و الآن كل دوائر السياسة الامريكية في انتظار نشر كتابه عن ايامه في البيت الأبيض، و الظاهر أنه بالرغم من محاولات قانونية لتأخير إصداره فإن الكتاب سيخرج في الأسابيع القادمة.

بولتون – حسب روايات من مقربين – يتذكر قول جون كيلي له، انه سيعرف سريعاً مدى سوء العمل في هذا المكان (البيت الأبيض). و القائل هنا هو كبير مسئولي البيت الأبيض (Chief of Staff)، المنصب الأقرب دائماً للرئيس، و هو في حالة كيلي جنرال سابق في البحرية الأمريكية، آي رجل ذو وزن و تجربة.

لا شك ان الكتاب سيحرج ترامب … و ذلك في أفضل و ليس أسوأ الأحوال للرجل. لكن المهم هنا ان ترامب سيجد صعوبة في تشويه صورة بولتون او تصويره على انه عدو لافكاره و سياساته. ذلك أن بولتون شديد البُعد عن مدارات السياسة في واشنطن. و لعل الجملة الطريفة و القاسية التي قالها سيناتور مهم من الجمهوريون (حزب ترامب) ان “لا أحد في واشنطن يدعو بولتون الى مائدة عشاء” دالة. بولتون إذن، مثل ترامب، قادم من أطراف السياسة، بعيد عن دوائر النفوذ و المصالح التقليدية في العاصمة الإمبراطورية. و هو مثل ترامب معروف بعدائه الشديد للمجتمع المخملي في واشنطن. أي أن الرجل أبعد ما يكون عن هؤلاء الذين يهاجمهم ترامب ليل نهار على انهم أعداء مشروعه.

المشكلة الأخرى لترامب ان بولتون، في ما قاله علناً منذ خروجه من البيت الأبيض لم يركز على أسلوب ترامب او اخلاقياته، و هي نقاط أصبحت الآن قديمة. الرجل ركز على معرفة ترامب، أو بشكل أوضح ركز على ذهوله من عدم معرفة ترامب بما يبدو له بديهيات في السياسة الدولية. و ذلك محرج لأي رئيس أمريكي، خاصة رئيس يصور نفسه على انه قائد عارف و عالم احتبته السماء بالكثير من حكمتها!

و أخيراً هناك الوقت. كتاب بولتون سيأتي شهور قليلة قبل الانتخابات الامريكية في نوفمبر ٢٠٢٠. و المشكلة الدائمة الآن في كل انتخابات رئاسية أمريكية هي أصوات الوسط. ذلك أن اليمين مع ترامب (او مع التوجة العام للحزب الجمهوري) و اليسار مع التوجه العام للديمقراطيين. العامل الحاسم هو الملايين القليلة من الناخبين في الوسط السياسي. و السؤال هل ما سيقوله بولتون سيؤثر على اختيارات بعضهم.

هنا تظهر نقطة أخرى، بعيدة عن سطح السياسة الامريكية، لكنها شديدة التأثير. هناك داخل الحزب الجمهوري مجموعات ذات نفوذ ترى أن ترامب ظاهرة كارثية على مستقبل الحزب و على اليمين السياسي الأمريكي. و هؤلاء من الأبناء الروحيون لقمم فكرية في الحزب الجمهوري الأمريكي. هذه المجموعات ترى ان خروج ترامب من السياسة الأمريكية أهم من تواجد الجمهوريين في البيت الأبيض في السنوات الأربع القادمة. و ذلك يدفع بسؤال أخر: هل ستعمل هذه المجموعات على استخدام ما يقوله بولتون لإضعاف ترامب من داخل حزبه؟

شهور مثيرة قادمة في واشنطن.