“قوس غضب الله منحني .. و السهم يهتز على وترالقوس .. و العدالة توجه السهم نحو قلوبكم، و تُزيد من انحناءة القوس … انها فقط رغبة الله – و هو يأتيه غضب – التي تمنع القوس من السُكر من دمائكم.” … كلمات جوناثان ايدواردز، كبير قساوسة واحدة من أهم مدن بوسطن، هزت وجدان مستمعيه. الرسالة واضحة: انها أعمالهم الغارقة في الذنوب، المتلوثة برغباتهم، التي جلبت عليهم غضب الله، و هو في نظر ايدواردز، اله يعتريه الغضب. و في ذلك الصباح البارد، داخل ردهات تلك الكنيسة الضيقة العرض عالية السقف، لم ينسى ايدواردز أن يُذكر المؤمنين الرافعين عيونهم اليه، ان الله لا يدين لهم بوعد و ليس عليه فرض ان يرحمهم. انها فقط الرغبة الإلهية التي تمنع الهلاك الذي تجلبه أعمالهم.

ايدواردز، الذي عاش في منتصف القرن الثامن عشر، عبر عن تيار متجذر في الفكر المتنقي التطهري (puritanical) و الذي كان واحد من الأعمدة التي قامت عليها الولايات المتحدة الأمريكية، و التي لا تزال الآن ذات وجود قوي، سواء في الولايات المتحدة. او غيرها.

في ذلك اليوم من ربيع ١٧٤٢، ايدواردز تحدث الى مجموعات خائفة .. كانت هناك مشاكل واضحة لبلدة بوسطن مع التاج البريطاني و تواترات عن قصف بحري قادم من البحرية البريطانية للمدينة. كان هناك خوف ان البحرية البريطانية ستفرض حظر على الشواطئ الشمالية للولايات المتحدة .. و مع كل ذلك، كانت هناك أيضاً مشاكل مع عدد من أقوى ولايات الوسط و الجنوب، و كان معنى هذا ان مجتمع بوسطن الثري شعر بخشية من انغلاق طرق التجارة التي تربطه بولايات تُعَد أهم أسواقه. الخوف إذن كان على النفس و البيت و الرزق.

صلاة يوم الأحد في الكنيسة، و الاستماع الى الأب ايدواردز، كان لقاء هام. ليس فقط لأهمية الرجل في مجتمع المدينة، لكن أيضا لان الكنيسة كانت تلعب دور رئيسي في حياة المدينة الاجتماعية، و من ثَم السياسية. ما يقوله ايدواردز يُشكِل روية كثيرين للوضع الذي يعيشونه، و هو جديد و غريب و يحمل مخاوف كثيرة لأغلبهم.

لكن رسالة الخوف التي قدمها ايدواردز لم تكن الوحيدة في بوسطن تلك الأيام. كانت هناك مجموعات، و بعضها كان له أتباع أيضا داخل الكنيسة، رأت في الوضع الراهن فرصة لتثبيت فكرة أن المدينة الوليدة مجتمع واحد بكل طوائفه الدينية و بكل الأعراق التي تعيش فيه. لم يكن غربيا ان تتجمع هذه المجموعات في مراكز بدأت تظهر حول المدينة، و قد تطورت فيما بعد لتصبح جامعات كبرى (مثل هارفارد) او مراكز فكر و صحافه (مثل المجموعات التي دارت، في عقود تلت، حول المُجدد الفلسفي إيميرسون). و لعلة مثير ان ايدواردز نفسه كتب فيما بعد ما يدل على تطور تفكيره. الرسالة التي ركزت عليها تلك المجموعات هي العمل الإنساني، كيفية تحويل القلق الشخصي الى تعاون مجتمعي، و كيفية تحويل الخوف من طاقة فزع الى طاقة تعاون.

من الصعب معرفة دواخل الصراع الفكري الذي دار في بوسطن في تلك الأيام. كانت هناك لحظات فلت فيها النظام المجتمعي، و بعضها في المذكرات الكثيرة التي جاءتنا من هذه الفترة. لكن الثابت ان النجاح المهول الذي حققته بوسطن في العقود التي تلت، خاصة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، يدل على ان الرعب لم يغلب الطاقة الخلاقة. خلال أقل من ربع قرن، أصبحت بوسطن المدينة الأرقى في الولايات المتحدة، و قد ظلت كذلك حتى منتصف القرن التاسع عشر على الأقل. و ربما ذلك دليل على أن نجاحات كبرى تولدت من عمق تلك الحظات الصعبة التي عاشتها المدينة. و لعل إيميرسون نفسه كان من أبرع من بحثوا في عمق تلك التجربة التي عبر عنها بكتاباته حول حتمية الصراع الشخصي مع الخوف، خاصة في تلك اللحظات التي يبدو فيها الخوف شعور جامح لا يُوقف… هنا الإيمان، بمفهومه الأوسع و الأرحم و القائم على فهم قيمة و روعة الإنسان، ربما يكون طريقا من طرق مكافحة الخوف، و قناة الى الخلاص منه و مما جاء به.