السلطان جاهانجير أراد ان يرسل رسالة واضحة…لقد وافق على تواجد شركة الهند الشرقية، التي تم تأسيسها منذ أعوام قليلة في ١٥٩٩، في المقاطعة الكبرى التي يحكمها في بلاد الهند و السند…كما انه وافق على منح هؤلاء الأغراب القادمين من بلاد الأنجليز حق التجارة وفق قواعد محددة وضعوها هم و رأها هو ذات منطق معقول…لكن، في اللوحة الذي أمر بها لتوثيق دخول هذه الشركة الإنجليزية الى بلاده، وضع نفسه (او وضعه رسام اللوحة) في صدر الرسم، بينما جاء تصوير الملك جيمس الأول (ملك إنجلترا وقتها) في أسفل اللوحة، تقريباً في مستوى اقدام جاهانجير. و الرسالة: انه هو، الأمير الهندي، السيد، الأمر الناهي، و المانح للفرص الاقتصادية التي جاء هؤلاء الأغراب من أجلها.

لكن في أقل من عقدين من الزمان، أخذت القصة منحنى مختلف عما تصوره جاهانجير. توسعت تجارة شركة الهند الشرقية، سواء في مناطق شبه القارة الهندية او في المنتجات التي تشتريها و تبيعها. كما توسعت مصالح الشركة، و ربما الأهم: المصالح الداخلية لأمراء الأقاليم المختلفة و ارتبطت بالشركة و أعمالها. و لذلك لم يكن غريبًا ان بدأت الشركة في نسج علاقات سياسية ببعض هؤلاء الأمراء و بعض العائلات التجارية ، و بعض “النواب” (و هم من بقايا الدعاة الذي لعبوا دورًا مهمًا في إرساء حكم الدولة العباسية في شرق إيران و في الهند لاحقاً). و مع توسع المصالح و توسع النفوذ جاءت أساليب جديدة للقوة. بدأت الشركة في تكوين قوة حماية خاصة بها، معتمدة بشكل رئيسي على عناصر خدمت في الجيش الإنجليزي ثم وجدت ان خدمتها للشركة الجديدة على الجانب الأخر من العالم أكثر جزيا بكثير. و سريعًا ما توسعت قوة الحماية تلك الى جيش كان، في أواخر القرن السابع عشر و طيلة القرن الثامن عشر، القوة البريطانية الضاربة و الأكثر تأثيرًا في كل آسيا.

و قد كانت الشركة، خاصة في القرن الثامن عشر، على أتم استعداد لاستخدام القوة و العنف و على إرهاب القوى الداخلية في أنحاء مختلفة من شبه الجزيرة الهندية، من أجل توسيع مصالحها، بما في ذلك إيجاد ثَم تثبيت إقتصاد، أقل ما يمكن ان يُوصف به، انه إقطاع تحكم في الموارد و المنتجات و الأسواق و البشر. و لعله دال ان واحده من أولى الكلمات الهندية التي وجدت طريقها في ذلك الوقت الى اللغة الإنجليزية كانت: loot، و قد كان و لا يزال معناها: النهب .. كما انه أيضاً مثيرا للإهتمام ان “الراچ” (Raj) (الحكم البريطاني المباشر للهند) قد استمر تقريباً قرن من الزمان، بينما سيطرة الشركة على البلد و على كل شبه الجزيرة الهندية استمرت تقريبا ٢٥٠ سنةً.

قصة شركة الهند الشرقية و تحولها الى اهم أدوات الإمبراطورية البريطانية في الهند و آسيا كلها، ليست جديدة. هناك عدد من الكتب الهامة التي تناولتها. لكن نشر الأوراق الخاصة لبعض كبار موظفي الشركة – و قد كان أغلبها في حوزة عائلاتهم لقرون – نتيجة مزادات في لندن في صيف ٢٠١٩، لفت نظر بعض الباحثين. و كانت النتيجة عدد من القصص التي تُظهِر سطوة و سلطوية الشركة و اداراتها المتعاقبة. كما ان هذه الأوراق – و بغض النظر عن الجوانب الأخلاقية و الإنسانية – تُظهِر أيضاً النجاح المهول للشركة في السيطرة شبه الكاملة على إقتصاديات شرق و جنوب شرق آسيا لربع آلفية من السنين.

و ما زاد من الاهتمام بهذه الأوراق ان نشر بعضها جاء بعد مشاكل قانونية، كان بعضها متعلق برغبة بعض كبرى العائلات البريطانية في الحفاظ على سمعة أجداد كونوا ثروات و حصلوا على القاب أرستقراطية و صار لبعضهم أسماء لامعة في التاريخ الإنجليزي، لكن أوراقهم تُظهِر الى أي مدى تخطت أعمالهم حواجز المتعارف عليه من الأخلاق. و لعل المثير في الأمر ان عدد من المجموعات المحتوية لهذه الأوراق تم شراءه بأسعار أعلى بكثر مما قدرته دور المزادات التي حصلت على هذه الأوراق .. و يبدو أن هناك من كانوا على استعداد لدفع الكثير لضمان ان تبقى أسماء محاطة بأساطير صنعتها القوة و المال لتخفي حقائق أالتاريخ.