بريطانيا قلقة
الصيف في بريطانيا جميل، و ان كان قصير. لكن هذا العام، هناك ضباب على الجو العام للمجتمع.
عملية الخروج من الإتحاد الأوروبي (البريكسيت) و انتخابات قيادة حزب المحافظين الحاكم فتحا ملفات كثيرة، و أجبرا الكثيرين على النظر بعمق في حالة المجتمع البريطاني.
و الواضح لأي ناظر ان هناك أسئلة مؤرقة.
واحد: انه بعد عقد كامل منذ الأزمة المالية في ٢٠٠٨، فإن سياسات التقشف لا تزال مستمرة. و بغض النظر عن الوضع المالي الجيد للخزانة البريطانية، فإن درجات الفقر (في التعريف البريطاني) لا تتحسن. و الأهم، أن الفرق التنموي التاريخي بين ثراء الجنوب البريطاني (و قلبه جنوب شرق إنجلترا، بما فيه لندن) و بين الشمال (و فيه بقايا المناطق الصناعية الإنجليزية و الاسكتلندية) في ازدياد. و هذا الفرق التنموي بدأ يعبِر عن نفسه سياسياً بشكل جديد. مثلاً، بينما كان في الماضي الشمال أكثر ميلاً للتصويت لحزب العمال، الآن، هناك رفض واضح بين طبقات واسعة في الشمال لكل الهيكل السياسي في البلد. و قد يبدو هذا متماهياً مع الغضب الظاهر في الكثير من المجتمعات الأوروبية. لكن، بريطانيا، و إنجلترا بالأخص، كانت، لقرون، ذات وضع خاص، بالنظام السياسي و الإجتماعي الأكثر ثباتاً في كل اوروبا.
اثنين: الخروج من الإتحاد الاوروبي يفرض على بريطانيا إعادة النظر في علاقاتها بكل الدول الأكبر (سياسياً) في العالم: الولايات المتحدة، الصين، و روسيا. مع الأخيرتين، وجود بريطانيا داخل الاتحاد الاوروبي، مع علاقتها الخاصة بالولايات المتحدة، أعطاها مساحة حركة واسعة، استطاعت فيها ان تعظم مصالحها بدون ان تتبع الخط الأمريكي دائما، و في نفس الوقت أعطاها حائط صد استطاعت بريطانيا ان تستتر خلفه. و لذلك في الكثير من المرات و الملفات، بدا الصوت البريطاني مدوياً بدون أن يفرض ذلك على بريطانيا فعل يوازي القول…خارج الإتحاد الاوروبي، بريطانيا تقف إما وحيدة او كحليف متميز، لكن صغير جداً، مقارنة بالولايات المتحدة. و في الحالتين، هناك مشاكل. في الحالة الأولى، إنجلترا مطرة لتغليب مصالحها الإقتصادية على أغلب مبادئها السياسية. في الحالة الثانية، هي مطرة لقبول القرار الاستراتيجي الأمريكي في أغلب الملفات.
ثلاثة: بريطانيا تخرج من إطار الاتحاد الاوروبي بينما مؤسساتها التاريخية تمر بلحظات انتقالية. الملكية تنتظر لحظة انتقال التاج من الملكة إليزابيث الى الأمير تشارلز. و الفارق بين الشخصيتين كبير، كما أن الأمير قد أبدى لعقود استعداده للدخول في بعض تفاصيل السياسية البريطانية، و هذه منطقة حساسة في العلاقة بين البرلمان و القصر…هناك أيضاً انتقالان على قمة الحزبين الكبيرين، المحافظين و العمال. الأول يبحث عن معنى جديد “للمحافظة” في مواجهة اليمين المتشدد الصاعد. و الثاني (العمال) يمر بحرب أهلية بين تيار يبعث أفكار الحزب في السبعينات و الثمانينات، يقوده رئيس الحزب الحالي چيريمي كوربن، في مواجهة من ظنوا انهم قد طوروا الحزب، في التسعينات و بداية الالفينات، ليصبح صورة بريطانية من الحزب الديمقراطي الأمريكي (و هؤلاء مجموعات كانت قريبة من رئيس الوزراء السابق توني بلير)…حتى الكنيسة الإنجيليكية، و هي من قوائم الفكرة و الهوية البريطانية، و بالذات الإنجليزية، تمر بمعضلة. من ناحية، التيارات الأقوى فيها ليبرالية الهوى. من ناحية أخرى، بُعد الكنيسة التدريجي عن اللاهوت التقليدي واحكامه يُفقِدها تأثيرها التاريخي و المهم في مناطق كثيرة في العالم، بالذات في افريقيا.
أربعة: ليس هناك الآن مشروع فكري واضح امام بريطانيا …الدور المؤثر الذي لعبته بريطانيا من الخمسينات الى الثمانينات في المناطق المهمة من الإمبراطورية القديمة (مثلاً في شبه القارة الهندية او شرق آسيا) لم يعد ممكنا اليوم. دور الحليف الصغير، لكن الذي يسوق – او يُساعد في تشكيل - فِكْر الحليف الكبير (الولايات المتحدة) أيضاً لم يعد ممكناً اليوم، مع التشعب الرهيب للعمل (و أدوات العمل) السياسي الأمريكي في العالم. حتى مشروع توني بلير و خلفه جوردن براون، و فيه بريطانيا لاعب رشيق على مسارح دولية مختلفة، من الانجلوساكسونية الى الأوروبية الى الآسيوية، من الصعب جداً بعثه الآن، في ظل اللحظات الانتقالية المتعددة داخل المؤسسات البريطانية الكبرى، خاصة ان لتلك الانتقالات تداعياتها على عمل الهيكل الإداري للحكومة البريطانية.
خمسة: في اعماق الفكر البريطاني، المجتمع يعلم ان البلد سوف يتعدى أي مشكلة تنبع من الخروج من الإتحاد الاوروبي. لكن، هناك تساؤلات كثيرة حول تأثير الخروج على الطبقات الأدنى (اقتصادياً). و اذا وصل التأثير الى درجة المعاناة، فما معنى ذلك على الهيكل السياسي؟
ستة: …و هي نتيجة للنقطة السابقة، اذا وصلت تداعيات البريكسيت الى درجة معاناة بعض الطبقات، فإن خطر التقسيم – خروج إسكتلندا من المملكة المتحدة (الكيان القانوني الأعم لبريطانيا) – سوف يزداد، خاصة ان إسكتلندا (على عكس إنجلترا) لم تصوت للخروج من الاتحاد الاوروبي.
كل ذلك يؤثر في ديناميكيات صنع القرار البريطاني، البادي الآن بطئ و احيانا متوتر.
كما انه مع التوتر، هناك لمحة خوف، عبر عنها ببراعة مسلسل للBBC يُصوِر بريطانيا بعد عشرين عاماً. و الصورة – كما يقول المثل المصري: لا تسر عدو و لا حبيب…ففي تلك الصورة، لا بريطانيا سقطت في مستنقع مشاكل و لا هي قامت مستعيدة حيويتها. إنما بقيت تائهة، طارقةً أبواب مختلفة.
لذلك، فبالرغم من الشمس و النسيم في حدائق لندن و خروج سكان الريف الإنجليزي والأسكتلندي للطبيعة، فإن رياح الخريف بادية في الأفق.