لاحتفالات الكريسماس جاذبية خاصة في أغلب انحاء العالم. هناك من يتصور ذلك أثرًا لنفوذ الثقافة الغربية، و ذلك صحيح. و هناك من يرى في ذلك ذكاء تجاري لدفع الناس للشراء في موسم يُخلَق فيه فرح و احتفالات، و ذلك أيضا صحيح .. لكن جاذبية الكريسماس اكبر من تلك لأي عيد مسيحي أخر، سواء في المجتمعات المنتمية تاريخياً لفكر مسيحي او في غيرها.

و ربما ذلك راجع الى أن الفكرة الكامنة في عمق الكريسماس قديمة للغاية، و داخلة في وجدان أغلب شعوب الأرض، خاصة تلك حيث كان للزراعة دور مهم في الحياة و الثقافة – و من ثم بالضرورة في الدين.

هنا الكريسماس هو ولادة النور من بعد ظلام .. و المعنى بالدرجة الأولى ملموس .. ولادة النور تعني سطوع الشمس بعد غيابها .. و المقصود هو اللحظة الهامة في علاقة الأرض بالشمس، لحظة الwinter solstice او ما يعرف بالعربية بالانقلاب الشتوي. تلك اللحظة التي ينتهي فيها ازدياد و طول ليالي الشتاء (في النصف الأعلى من كوكب الأرض حيث عاش غالبية الناس طيلة تاريخ البشرية)، و يبدأ بعدها النهار في الازدياد .. لكن تلك اللحظة طويلة. تأخذ عدد من أيام. من ليلة ٢١ الى ٢٥ ديسمبر. من أطول ليلة في الشتاء الى تلك اللحظة التي يبدأ فيها النهار في الطول من جديد .. لذلك فإن الحضارات القديمة، و أهمها هنا الحضارة المصرية الفرعونية، تصورت تلك اللحظة انبعاث الشمس من بعد موت. و المعنى ان أطول ليالي الشتاء غياب للشمس، ثم هناك انتظار لها و هي غائبة في عالم غير مرئي للبشر، الى ان تعود مرة أخرى لتولد من جديد في العالم المحسوس يوم ٢٥ ديسمبر.

لذلك نرى في الفكر المصري القديم أن حورس، و يمكن تصوره جزئيا على انه تجسُد الاله رع في الشمس، كان يغيب عن السماء في ٢١ ديسمبر، ثم يعود ليولد من جديد في ٢٥ ديسمبر. في ذلك التصور، موت الشمس الذي هو غياب الضوء، موت للأرض، للخصب. و إعادة بعث الشمس الذي هو عودة الضوء، احياء للأرض، للخصب، و من ثم للحياة.

نفس الفكرة موجودة في حضارات بلاد الرافدين كما في الأجزاء الغربية من ايران، كما في فرنسا و ايرلندا قبل دخول المسيحية، و هي هناك في الحضارات القديمة في أمريكا اللاتينية، و بالطبع في فكر اليونانيين و هم أول من تعلموا من مصر القديمة. و في كل تلك الانحاء، هذه الأيام من ٢١ الى ٢٥ ديسمبر كانت مقدسة لما تمثله من أهمية في علاقة الأرض بالشمس، التي هي مصدر النور و الحياة في مجموعتنا الشمسية، التي كانت الكون المرئي امام البشرية طيلة تاريخها.

اذن تعظيم تلك الأيام كان في عمق فهم الحضارات الكبرى لعلاقة حياة الانسان بذلك النجم الساطع الذي بدونه تنتهي هذه الحياة. و كالعادة، فان فهم الانسان لما حوله و تصوره لما وراء ذلك كان دائماً في جوهر الفكر الديني للإنسان .. و أيضا كالعادة، فان الفهم الديني منقسم بين ما يُصَرح به و يُدَرس لقلة قليلة (كانت في القدم، طبقة الملوك و النبلاء و رجال الدين) و بين ما يُقدَم للغالبية الساحقة من الناس و يدخل عبر الزمن في تراثهم ليصبح مقدساً.

لذلك فان تقديس الشمس كنجم كان في معتقدات العامة. اما في الدوائر العليا في حضارات مختلفة، فان التقديس لم يكن للشمس، و لكنه كان تعظيم لدورة النور و للطاقة الخارجة منها و المُخرِجة لها.

هنا ظهرت في التاريخ الإنساني تصورات مختلفة ربطت دورة النور تلك بالإله الواحد. كلها كان فيه الظاهر الذي يقدم للعامة، و هو بسيط، كما كان فيه الباطن و هو للقلة، و كان دائماً عميق .. و لعل السؤال الهام – و الابداعات او العطايا الكبرى – في الكثير من تلك التصورات البشرية كان في رؤية ذلك الارتباط. بمعنى ان الجميع تقريباً فهموا ان الصلة هي واحدة من تجليات الخلق .. لكن محاولات الغوص في جوهر تلك التجليات أخذ الثقافات الى طرق شتى لفهم معنى الخلق، و من قبل و من بعد، للاقتراب من الخالق – مع ادراك ان فهم الخالق مطلق خارج قدرة العقل البشري في تكوينه الحالي.

لكن مع اختلاف الطرق، بقى تعظيم دورة النور، ليس فقط لكونها المثال الأوضح لوهب الحياة على هذا الكوكب، و لكن أيضا لأن ذلك الفهم كان من أولى خطوات البشرية في كل طرقها للاقتراب من الخالق، الباعث للنور.