في وقت تبدو فيه السياسة الأوروبية خالية من سياسين كبار، خاصة و أن المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل على وشك الانسحاب من الساحة، هناك إهتمام بالسياسيين الذين صاغوا السياسة الأوروبية في مرحلة بداية المشروع الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية. و في هذا الإطار، صدر مؤخرًا عدد من الكتب و الدراسات حول تشارلز ديجول، الرئيس الأهم في تاريخ فرنسا .. بطل التحرير من الاحتلال النازي أبان الحرب العالمية الثانية، الرجل الذي أنهى معضلة وضع فرنسا في الجزائر (و قد كانت في الوجدان الفرنسي، أصعب و أعقد من مجرد مستعمرة)، و الرجل الذي أعاد فرنسا الى الساحة الدولية كقوة هامة ذات تأثير و صوت يحق له أن يُسمَع، بالرغم من أنها، واقعيا، هزمت و أحتُلَت من ألمانيا اثناء الحرب العالمية، و كان تحريرها بفضل القوة الأمريكية و التفكير البريطاني، و خاصة ذاك لرئيس الوزراء ونستون تشيرشل.

لكن ما يظهر من الاهتمام الحالي بديجول أن أوروبا تحاول، في النظر لتاريخها المعاصر، ان ترى و تركز على المشاكل و الأخطاء، و أن تخرج من فكرة تأليه بعض سياسييها. و لعل هذا التفكير و النوع من الكتابة التاريخية واقعي في وقت يعاني فيه المشروع الأوروبي من شكوك حول أهدافه و اتجاهه، ربما الأهم، قدراته.

ديجول هو المثال الأفضل لتطبيق ذلك النوع في الكتابة التاريخية، ذلك أن الرجل، كان لعقود، في الوجدان الفرنسي و الأوروبي، عملاقا، يبدو و كأنه أتى من أعماق تاريخ بلاد “جول” (الإسم القديم لفرنسا)، حاملًا ذاك الإسم، و مُجسِدا له في القرن العشرين.

لكن ديجول الذي يظهر من تلك الكتابات الجديدة، أبعد ما يكون عن فكرة العملاق التاريخي. نحن هنا أمام سياسي، له ما له، خاصة في الشئون الخارجية، و عليه ما عليه (و هو كثير) في الشئون الداخلية.

على سبيل المثال، في الشأن الفرنسي الداخلي، نرى ديجول عاجزاً عن الإستفادة من دوره في تحرير فرنسا ليصبح زعيم البلد بعد الحرب، بالرغم من أن هذا كان طموحه، و بالرغم من محاولات كثيرة، كان منها تأسيس حزب كان مصيره الفشل … نراه أيضًا واصلا الى سدة الحكم بعد سلسلة من التوترات و المناوشات بدأت من تدخلات لقيادات في الجيش الفرنسي في الجزائر أرادوا ان يمعنوا الانسحاب الفرنسي من المستعمرة، و لو من خلال تمرد على السلطة السياسية. و مثل ذلك الوصول الى السلطة أبعد من أن يكون قمة النبل السياسي. نحن نرى أيضا ديجول مثالًا للتركيز شبه المطلق للسلطة التنفيذية في يد شخص واحد. و لعله مثير للإهتمام انه بينما نابليون بونابرت، المؤسس الرئيسي لفرنسا الحديثة، أنشأ الجزء الغالب من مؤسسات الدولة الفرنسية و أعتمد بشكل عام على عمل هذه المؤسسات، من خلال هياكل قانونية وضعتها عقول قانونية في عهده، ديجول لم يقُم بالكثير من ذلك. على العكس، ديجول ركز صلاحيات مهوله في مكتبه، ثم ادار فرنسا من خلال مجموعات صغيرة من الدوائر الإستشارية التي أحاطت به.

و ربما خلف كل ذلك، هناك النقطة التي تظهر جلية في فكر الرجل: انه رأى عمله ليس مجرد أن يحكم فرنسا وفق ما تراه الأغلبية من الفرنسيين، بقدر ما هو ان يمثل و يحاول إحياء فكرة فرنسا (كما تصورها هو). هذه النقطة كانت في عقله لعقود طويلة منذ كان ضابطا ملحقًا بمجلس الدفاع الوطني الأعلى في الثلاثينات من القرن الماضي. وقتها كان أهم ما كتب ديجول هو: مفهوم الدفاع عن فكرة فرنسا، بينما كان زملائه و رؤساءه (و كان على رأسهم الماريشال پيتان، بطل الحرب العالمية الأولى على الجبهة الفرنسية، و أيضا الرجل الذي، بعد عقود قليلة، أعلن إستسلام فرنسا أمام الجيوش النازية) يكتبون عن الدفاع عن “التراب الوطني”. هذا الأهتمام بفكرة الهوية و المعنى و الدور التاريخي لفرنسا – و ليس كيفية حكم المجتمع الفرنسي - ظل مع ديجول الى نهاية حياته. و لعل قوله الموثق لمعاونه الرئيسي في تلك السنوات الأخيرة في نهاية الستينات، جاك فوكار، شديد الدلالة: “انني منذ الأربعينات أحاول أن أعطي فرنسا مظهر القوة و الحزم و الثقة، بينما هي منهكة، يفكر مجتمعها فقط في راحته و يحاول الإبتعاد عن المشاكل … أنني أُعطي للفرنسيين فكرة فرنسا كما هي، بينما هي لهم، ليست أي من ذلك.”

كعادة مثل تلك التحليلات الجديدة التي تركز على نقاط و أولويات لم تكن في قلب الصور التاريخية من قبل، سيخرج القراء بتصورات مختلفة عن الرجل محل النظر. هناك من سيرى في ديجول زعيما تاريخيا، رأى أبعد كثيرًا مما رأى مجتمعه. و هناك من سيرى رجلا عاديا لا يملك مقومات فكرة العملاق التاريخي. لكن، لنا نحن، المتابعون عن بعد، الفائدة الأهم، هي رؤية كيف تستطيع و تقوم تلك المجتمعات التي تحترم عقولها و حرياتها، بفتح ملفاتها، بدون خوف، و بدون رهبة، معيدة النظر في البدايات و الطرق التي أدت الى الحاضر. و في ذلك الإحترام للعقول و للحريات مصل وقاية من غياهب الكذب و غيبوبات الجهل.