روبرت هيشنز لا يملك معرفة جمال حمدان بابعاد الجغرافيا السياسية لموقع مصر ، و لكنه يملك فهم للسحر الكامن في معالم المكان و تراكمات التاريخ على هذه الأرض .. و لذلك هيشنز سمى كتابه عن البلد تعويذة مصر .. انها التعويذة المكتملة من سحر المعاني القابعة في النيل و الاهرام و أبو الهول و المعابد المصرية بتسلسلها على ضفاف النيل من الشمال حيث يأتي الزائر، الى الجنوب حيث يحمله النيل ببطئ يتناسب مع خطو الزمن، عبر الأرض المقدسة الى ان يوصله الى النهاية، الى الحدود حيث ينزوي السحر، و حيث يفيق الزائر على بدايات الادغال.

هيشنز يُكلِم مصر، و الرجل يحفظ الأدب. فمن حادث الملكات أحنى الرأس تعظيمًا و فكر في الكلم توقيرًا. فما بالك بمن حادث من يعرف انها الحافظة الأولى لأصل الملك ، و الوعاء الأول لمعاني ارتفعت بالإنسانية من رق الجهل الى سمو الإدراك.

اول حديث الرجل تذكرة بزيارات بعيدة ، في نهايات القرن التاسع عشر ، حين جاء من لندن الى القاهرة طالبًا الاسترخاء فوجد ما امامه و حوله فارضًا على عقله التنبه ، و مع التنبه جاء إحساس بضرورة البحث ، فحمل هيشنز نفسه بعيدًا عن راحات و ملذات العيش في وسط القاهرة ، و تلك وقتها و حتى حدود منتصف القرن العشرين من خلاصات الابداع الإنساني في مزج جمال الشرق و الغرب .. و لكنه ذهب دارسًا ، جالسًا لساعات امام الأهرام و لأيام امام أبو الهول ، ثم لأسابيع على ضفاف النيل حيث كان يثور و يجول و يصل الى حدود الصحراء في مواسم الفيضان .. و في كل ذلك كان الزائر الإنجليزي مشاهدًا يحاول ان يستوعب ، يحاول ان يفتح في إدراكه فراغات يدخل منها فهمُ جديد ليُنير عقله و يهدي روحه .. هيشنز يسترجع تلك الأيام في بداية تقديمه لتعويذة مصر ، و يقول لمن يخاطب ، و هي السيدة كبيرة المقام في التاريخ و عظيمة القدر في عمق التجربة الإنسانية ، انه قد عاد ، ومثله مثل الزوار القدامى للبلاطات الملكية ، يذكِر بأدب بمن هو و بالوقت و الجهد الذي بذل بين يدي صاحبة المكان ، في حرم الأرض المقدسة.

بعد التذكير يفتح هيشنز جعبته ، و أهم ما فيها سرد جديد لمعالم المكان – و هنا قلب الدراسة ، هنا الغوص في التعويذة .. هيشنز يأخذ قارئه في رحلة داخل عقله حيث النيل و الأهرام و أبو الهول و المعابد المصرية بتسلسلها، معاني للناظر ان يحاول فهمها .. و محاولات الفهم و طرق شرح ما قد فُهِم نابعة من إدراك الناظر الذي هو نتاج تجربة حياته العقلية و الروحية و الجسدية .. لكن إدراك الناظر قد أخذ من قوة المكان و استوعب داخله ما ترسب اثناء النظر الطويل و الدراسة المتعمقة .. اننا هنا أمام دائرة من تداخلات مختلفة داخل ادراك الراوي .. و الجميل في حالة هيشنز ان ادراكه قد أخذ من اجمل انتاجات الثقافة الأوروبية قبل ان يأتي حاجًا الى المقدسات المصرية .. لذلك فإن رؤيته للتعويذة المصرية تأخذ من جوته ، عملاق التراث الألماني الحديث و من باكون ، عبقري الوعي البريطاني في لحظة الانتقال من النهضة الى التنوير .. لكن سعة استيعاب هيشنز – و سعة الاستيعاب من أهم مسببات الذكاء – انه لا يفرض جوته و باكون على ما يأخذه من النظر في النيل و الأهرام و المعابد .. وعي هيشنز الغربي سبل يمر منها ادراكه بسحر مصر في الطريق نحو السكون داخل وجدانه.

لكن تعويذة مصر اكبر من تُشرح في سرد زيارات و إن كانت طويلة ، و أعقد من أن تُفهم بالنظر و إن كان مطولا .. و هيشنز يدرك ذلك ، فمدخله كما قلنا في البداية احترام المعاني القابعة في تلك الأرض العتيقة .. لذا فدراسته محاولة للسرد محدودة بحدود ما رأى و بمقدار ما تصور ان كلاماته مُعبرة عن مقاصده ، و الأهم مُعبرة عن المقاصد التي فهم انها موجودة فيما رأى .. لذلك فالكتاب – كالكثير من سرديات الحجيج سواء في الثرات الإسلامي او المسيحي – ينتهي عندما يدرك الراوي ان مقدار ما لديه قد وصل الى نهايته و ان دواعي الأدب تقتضي وقف الحديث ، لأن في ذلك اعتراف الادراك المحدود و الفهم الناقص بعظمة ما يحاول الراوي ايصاله لادراك القراء .. و عليه سكت الراوي و أومأ باحترام الى الساكت الأكبر أبو الهول.