على عكس العادة، لم تُجب انتخابات البرلمان الاوروبي، التي أُجريت في الأسبوع الأخير من مايو، على أيٍ من الأسئلة الرئيسية في اوروبا الآن.

من ناحية، فاز الحزبان الكبيران في البرلمان – ممثلا الكتل اليمينية و اليسارية الأهم في اوروبا – بأكبر عدد من المقاعد، و من ثَم احتفظا بموقعهما الرائد في البرلمان. و لكنه جاء نصر منقوص، فالاثنين، مع بعض، لا يسيطران على أغلبية حاكمة في قرار البرلمان. و الواضح، ان نجاحهما كان بحكم سعة تواجدهما في الدوائر الانتخابية، و ليس نتيجة لافكار و خطاب سياسي جذاب.

من ناحية أخرى، نجحت أحزاب أقصى اليمين في الحصول على تمثيل واضح، اكبر بكثير مما كان لها في البرلمان المنتهية مدته. و لكن هذا النجاح جاء باهتاً.. لا هو ساحق لاحزاب أخرى و لا هو قادر على فرض رؤى أصحابه. و لكنه نجاح يفتح امام قادة هذا التيار فرصة للعب دور اكبر، ليس فقط في بلادهم، و لكن أيضاً على الساحة الأوروبية ككل.

نفس الشئ حدث من الأحزاب الليبرالية و بينها ال(greens) – الأحزاب التي تضع المخاطر البيئية في قلب أجنداتها السياسية. حصلت على أكبر تمثيل لها في تاريخ البرلمان الاوروبي، و لكن ذلك جاء من نجاح مدوي في ألمانيا (و هي ذات تمثيل كبير في البرلمان)، و لكن بلا أي صدى في شرق او وسط او جنوب اوروبا.

و المحصلة، انها نتائج قابلة لقراءات متعددة…هي استمرار للأحزاب التقليدية، هي نجاح للثائرين القادمين من أقصى اليمين، و هي فوز لليبراليين في مكان محدد من القارة. و معنى كل ذلك: ان نتائج الانتخابات تعبير عن الاختلافات الجوهرية في فكر و شعور و رغبات و مخاوف المجتمعات الأوروبية. هي تعبير عن الانقسام الاوروبي، اكثر منها عن اَي التقاء فكري في القارة.

هذه الانقسامات تفتح أبواب نقاشات و مفاوضات. التكتلات الهامة في السياسة الأوروبية، و وراءها مصالح اقتصادية، و خلف الاثنان البيروقراطية الأوروبية (سواء في بروكسل، عاصمة الاتحاد الاوروبي، او في العواصم الكبرى) ستستغل كل ذلك لتعظيم مكاسب، بالذات في المناصب السياسية الكبرى التي ستتحدد في الأشهر القادمة، سواء في المفوضية الأوروبية او الأذرع المالية التابعة لها، او في البنوك التنموية الأوروبية.

لكن توزيع المناصب، و المحاصصات السياسية بين العواصم، و غيرها من دواخل البيروقراطية الأوروبية لن تقدم جديداً للناخب الاوروبي. على العكس، أغلب الظن ان الانقسامات في الاتجاهات و الرؤى و الطموحات و المخاوف بين اجزاء القارة، ستتفاقم، بينما السياسة الأوروبية منشغلة بتوازناتها.

هذا الحال يغلق باب و يفتح أخر.

الانقسامات، و البحث عن حلول وسط، غالباً، ستغلق الباب امام أي سياسي أوروبي يجد نفسه في موقع قيادي في المفوضية الأوروبية القادمة. ذلك أن المفوضية، من قبل و من بعد، اداة للتنسيق بين العواصم الأوروبية، و لخلق قوة دفع للعمل الاوروبي الجماعي. و لكنها تجد نفسها عاجزة عن خلق فرص او توحيد مواقف اذا كانت العواصم الأوروبية، و خاصة الكبرى منها، في موقع فكري مختلف. و هذا هو الحال.

في المقابل..هذه الانقسامات، و الدوران في متاهات البيروقراطية و التوازنات السياسية، تفتح باب امام زعيم شعبوي قادم من أقصى اليمين، و غير عابئ بالقواعد و البروتوكولات التقليدية للعمل في بروكسل و دوائر الاتحاد الاوروبي.

ليس معنى ذلك اننا امام احتمالية شخصية تمثل دور دونالد ترامب في بروكسل. لكننا، لا شك، امام فراغ في القيادة الأوروبية، جزء منه راجع الى نوعية قيادة انجلا ميركل الهادئة في برلين، و هي على كل حال في مرحلة تسليم المقاليد الى قيادة جديدة من حزبها، و جزء راجع الى ضياع المبادرة و قوة الدفع من ماكرون في باريس. لكن الفراغ حاصل و واضح، و عامل رئيسي في التشرذم السياسي للقوة الأوروبية (خاصة في الوسط السياسي، ما بين أقصى اليمين و أقصى اليسار). و الفراغ، دائماً، يدعو من يملئه.

سالفيني (الزعيم السياسي الأبرز في إيطاليا الآن) و ماري لوپان في فرنسا (الناجحة بلمعان في الانتخابات الأخيرة) يطمحان لملئ ذلك الفراغ. و كلاهما من قلب أقصى اليمين. السؤال الأن: هل سيبرز، من المفاوضات و المحاصصات السياسية في الأشهر القادمة، سياسون من الوسط، يحملون افكار براقة تستطيع ان تأخذ قوة الدفع من أقصى اليمين، و تستطيع، في الوقت نفسه، ان يكون لها صدى في شمال و غرب القارة، و ايضا في شرقها و جنوبها. إجابة هذا السؤال ستحدد اتجاه الريح في السياسية الأوروبية في المستقبل القريب. اذا لم يحدث، سنرى أبواب تُفتح امام أقصى اليمين.