القاعة فسيحة، ذات سقف مرتفع و عريض. المعمار هنا يمثل الهيبة و القوة. النور يدخل من نوافذ كبيرة وعالية، تنير لكن لا تتيح رؤية ما يجري في الداخل. انه المقر الرئيسي للشتازي: جهاز الأمن الرئيسي في ألمانيا الشرقية، و الأهم في الكتلة الشيوعية إبان الحرب الباردة، بعد المخابرات السوڤيتية (الكى جي بي).

ثلاثين عامًا بعد سقوط حائط برلين و إعادة توحيد ألمانيا، و انهيار الشتازي (مثله مثل كل أدوات القوة في ألمانيا الشرقية) ما زال هذا الجهاز يحمل اسرار…ليس عن العمليات الخارجية او دوائر صنع القرار االاوروبية (و قد كان واحداً من أقوى مخترقيها). اسرار الشتازي الآن هي ملفاته الداخلية .. أكثر من ٤٥ مليون ملف عن مئات الآلاف من الألمان، عشرات الآلاف من الموضوعات و الاهتمامات، و آلاف الهيئات و الشركات و الجمعيات الأهلية و غيرها و غيرها. هذه الأيام، هذه الملفات متاحة للجميع في هذه القاعة و في غرف هذا المبنى.

تجربة غريبة أن تجلس في هذا المبنى مع ملف يحمل اسمك، عدد من الصور لك، التقط أغلبها بدون علمك في حياتك اليومية، بعدها صفحتين من نقاط سريعة و محددة عن عملك، سكنك، وضعك الاجتماعي، عائلتك، و اهتماماتك، و بعد ذلك تأتي الصفحة المهمة: تلك التي تحمل تقييم الشتازي لك، ليس فقط من ناحية الولاء السياسي للنظام الحاكم، و لكن أيضاً تقييم شخصيتك و إمكانياتك. ما يليها القليل، او الكثير (حسب الاهتمام بك)، من المعلومات، كلها عنك، خاصة عن افكارك (او ما قدره الشتازي، افكارك).

في تلك القاعة ترى من يبتسم.. ابتسامة سخرية من تقييم، يراه هو، خاطئ تمامًا…لكنك أيضاً ترى نظرات حزن .. فهذه الصفحات تحمل ضمن ما تحمل تفسيرات لبعض ما حدث في حياتك و قد بدا وقتها بلا تفسير .. لماذا لم تحصل على تلك الوظيفة، لماذا لم يتم ترشيحك لتلك المنحة الدراسية .. الآن ترى السبب: عدم الثقة في ولائك، ربما شك في نقاط خاصة بآرائك عن السياسة الخارجية، ربما جمل قليلة قلتها في حفل على سبيل المزاح، و قد وجدت طريقها الى ملفك. و حيث اننا في ألمانيا (واحدة من قلاع الفلسفة الغربية) فأحيانا السبب كان تقدير لموقف فلسفي لديك…تقدير من أشخاص غالباً لم يروك، لا يهتموا بك، و لم يُعطوا آي وقت حقيقي لتلك التقديرات .. انها حياتك، لكنها لهم محض عمل، و هناك الكثير من العمل، و من ثم فالدقائق ثمينة، لكن تلك الدقائق قد قررت الكثير في حياتك…بالطبع الكثير من الحزن هنا يأتي من ادراك من يقرأ ملفه ان بعض من ظنهم أصدقاء، او بعض أفراد عائلته، كانوا من نقلوا ما قال، ما فعل، او ما ظنوا انها أفكاره.

بعد ثلاثين عاماً قد تبدو هذه الملفات تاريخ بعيد. ذكريات أشخاص هم الآن، في أغلب الأحوال، في كهولتهمً او شيخوختهم، او على الأقل، في أواخر مرحلة منتصف العمر. لكن الاهتمام بهذه الملفات يتعدى المشاعر و استرجاع الماضي. الاهتمام بهذه الملفات واحد من أهم المحطات التي يتوقف أمامها المجتمع الألماني في الذكرى الثلاثين لانتهاء الحرب الباردة. ذلك أن النقطة الرئيسية التي تشير اليها هذه الملفات ما زالت حاضرة اليوم، حتى في مجتمع يحترم الحريات مثل ألمانيا الآن. هذه النقطة هي الحد الفاصل بين الأمن المجتمعي و توغل الدولة .. بين مسئولية السلطة عن تأمين المجتمع، خاصة في ظل مخاطر حقيقية و متزايدة، و بين، من ناحية أخرى، سقوط الدولة في كارثة السيطرة المطلقة للهيكل الحاكم على المجتمع.…ألمانيا اليوم بالطبع بعيدة عن الوقوع في هذه الكارثة، لكنها ترى حولها عدد من الدول الأوروبية (خاصة في وسط و شرق القارة) ذاهبون في هذا الاتجاه. كما ان ألمانيا نفسها ترى في بعض ولاياتها (خاصة الأفقر في الشرق) تعاظم المخاوف من المهاجرين، من الإسلام، و من متغيرات تكنولوجية و اقتصادية، و كل ذلك يُقوي الفكر الداعي للانغلاق، للشك، و لتعظيم الدور الأمني. و لذلك، فإنه في الوجدان الألماني خوف، او تساؤل، من أن بعض ما خلق الوضع السياسي الذي احتوى الشتازي ليس تاريخًا بعيدًا غير قابل للعودة، و لكنه تاريخ قريب، و بعض ما كان فيه تظهر بوادره في الحاضر و في الجوار.