شرق البحر الأبيض المتوسط ملئ باسباب القلق .. من المأساة في سوريا، الى الظهور البطئ لعمق الكارثة في لبنان، الى كر و فر جماعات مسلحة متواجدة في المنطقة .. لكن هناك أسباب أخرى للقلق، بعضها مكتوم و لكنه موجود تحت السطح .. واحد من أهم تلك الأسباب هو حال السلطة الفلسطينية.

المشكلة الأولى هي الجمود حول الهدف من الوجود .. السلطة منذ بداياتها تعبير عن تحول في فكرة العمل على القضية الفلسطينية، من العمل في الخارج، الى العودة داخل فلسطين التاريخية و بناء ما كان متصورًا ان يتطور ليصبح هيكل دولة .. هذا كان جوهر التحول الذي احدثته اتفاقية أوسلو بين إسرائيل و منظمة التحرير الفلسطينية منذ تقريبا ثلاثين سنة .. في عمق أوسلو، و الأهم في عمق تحول العمل من الخارج الى الداخل الفلسطيني، كان هناك التركيز على مفاوضات مع إسرائيل، غايتها خلق ثم تطوير مؤسسات و أدوات الدولة التي يتم العمل عليها من الداخل .. لكن تلك النقطة الجوهرية – المفاوضات مع إسرائيل – توقفت منذ عدد من السنوات .. و بغض النظر عن كون هذا التوقف مقصودًا من جانب إسرائيل (كما توقع عدد من المفكرين الفلسطينيين عند توقيع أوسلو) او انه نتيجة تغيرات سياسية لها ابعاد اجتماعية، فإن الحاصل ان المفاوضات توقفت .. و هنا جوهر أزمة الفكر .. السلطة تبدو منذ عدد من السنوات، مجمدة في انتظار تغير، اما في إسرائيل او في الولايات المتحدة يُحيي المفاوضات، و كأن المفاوضات، بعد ثلاثين سنة من أوسلو، ما زالت سبب الوجود، و ليس ما كان مفروضًا ان تحدثه المفاوضات، و هو خلق مساحات أكبر و أكبر لتطوير مؤسسات و أدوات دولة.

و هذا يأخذنا الى المشكلة الثانية، و هي انه في غياب أي فكر جديد، أصبحت السلطة مجرد هيكل اداري يدير تفاصيل الحياة في مناطق صغيرة ذات مشاكل متعددة. و قد كان ذلك ايضًا واحد من المصائر التي حذر منها مفكرون عرب عند توقيع أوسلو .. و المشكلة هنا ان هذا الدور الإداري للسلطة، بدون وجود هدف أكبر لوجودها، بدون وجود معنى في الوجدان الفلسطيني لها، يصغر السلطة، سواء في الفعل او في التقدير.

المشكلة الثالثة، أن المنافس الأكبر للسلطة – حماس – يتغير، ليس فقط في أسلوب العمل، و لكن في التوجه الاستراتيجي. حماس دخلت بوضوح في الحلف الإقليمي الذي تقوده ايران .. و بغض النظر عن الرأي في ذلك القرار، و التعاطف معه او رؤيته كمشكلة كبرى في التوجة، فإن الحاصل ان حماس استطاعت، بعد عقد من الزمن، كما نقول في مصر، من التوهان، ان تستحدث طريق جديد. و قد أصبح التحول راسخًا في حرب مايو ٢٠٢١، و التي خاضتها حماس ضد إسرائيل كجزء من ذلك التحالف .. هذا التغير عند حماس – مرة أخرى بغض النظر عن الرأي فيه – اظهر ديناميكية و فكر وصل الى قرار و قدرة على السير في الطريق الذي جاء مع القرار – كل ذلك عكس تماما الحال في السلطة الفلسطينية، القابعة في صمت، بلا توجه ظاهر .. المشكلة هنا ان الاتجاه الذي ذهبت اليه حماس يحمل في طياته رؤية استراتيجية للمنطقة ككل. و ذلك يُحتِم على السلطة ان تكون لها ليس فقط سرديات تقدَم للاعلام، و لكن أيضا في المقابل رؤية استراتيجية لها تقدمها للشعب الفلسطيني عن كيف ترى هي مستقبل المنطقة، و عليه الاختيارات التي تقدمها لذلك الشعب.

المشكلة الرابعة تنظيمية و لكنها مهمة. السلطة الفلسطينية نتاج من منظمة التحرير الفلسطينية. تلك المنظمة في حالة تحلل منذ سنوات عديدة. و لعل ذلك كان طبيعيًا مع ظهور و نمو السلطة الفلسطينية. كما ان جوهر أوسلو و فكرة نقل العمل من الخارج الى الداخل أدت الى التركيز على ما كان متصورا ان يكون بذرة الدولة، و هي السلطة الفلسطينية. لكن المشكلة الآن انه ليس هناك هيكل تنظيمي فلسطيني ذو قدرات حقيقية جادة يعمل من خارج السلطة. صحيح ان المجال مفتوح امام مبادرات لخلق منظمات مجتمع مدني تعطي دفع لافكار و تصورات جديدة. لكن الوقت يجري، و هناك حاجة ملحة للتجديد. لكن الهياكل القديمة التي كانت مراكز الأفكار فارغة.

كما رأينا في عدد من الحالات العربية في العقد الماضي، تجميد الأوضاع في انتظار انتقال سياسي، امر محفوف بالخطر. و اذا كان هناك غضب شعبي فإن المخاطر تتضاعف، لأن داخل الجمود دائما ما تظهر تشققات، كثيرًا ما تتحول الى فتحات تخرج منها حمم الغضب.