أوروبا تشعر بالقلق. القارة القديمة تنظر للولايات المتحدة و آسيا و ترى تغيُرات سريعة، و كلها معبأ بتحديات للعواصم الأوروبية.

في وسط التغيُرات تكمن أربعة عقد.

العقدة الأولى هي تأثير صعود أقصى اليمين السياسي في عدد من دول أوروبا – في الشرق و الغرب – على المشروع الأوروبي نفسه. هذه النقطة محورية في هذا العام بالذات، حيث أن رئاسة الإتحاد الأوروبي عند النمسا التي يُحكمها تحالف ينتمي لهذا التيار اليميني. الخوف هنا يكْمن في تأثير فكر هذه الأحزاب على تصور أوروبا لنفسها على انها أعلى تجسيد لليبرالية الديمقراطية في التاريخ الإنساني كله. هذا التصور، قد يبدو ساذج خارج القارة. و لكنه فكرة مؤسِسة للمشروع الأوروبي الذي بدأ منذ بدايات الخمسينات. و من ثَم، فإن المخاطر التي تواجه الليبرالية الأوروبية، هي في وجهة نظر المفكرين الاستراتچيين للقارة، مخاطر على المشروع التاريخي لاوروبا.

العقدة الثانية هي: الى أين تمضي الولايات المتحدة. المشكلة هنا ليست الإختلافات الجوهرية بين فكر الرئيس ترامپ و فكر المؤسسات الرئيسية في الإتحاد الأوروبي. المشكلة – من وجهة النظر الأوروبية – في أن ترامپ نتيجة و ليس سبب. أي أن نجاحه هو تجسيد لصعود تيارات كبيرة في أمريكا ترى فيه ممثلاً لها. و من أهم قناعات هذه التيارات، أن أوروبا عالة على الولايات المتحدة، خاصة في مجال الدفاع، حيث تتحمل الولايات المتحدة الجزء الساحق من تكاليف تحالف الناتو و تكاليف تطوير التسليح الغربي بشكل عام، بينما أوروبا – في رؤى هذه التيارات اليمينية الأمريكية – تنعم في الحماية الأمريكية، تقريباً مجاناً. هنا، أوروبا ترى مخاطر في تطور هذه الأفكار الى مطالبات أمريكية تؤدي الى نفقات إقتصادية (و سياسية) أوروبا ليست متحمسة لها. و قد تكون غير قادرة عليها. و المشكلة أن ترامپ و ادارته يبدون ناظرون الى العلاقة مع أوروبا من زاوية حسابات تكلفة و مصاريف، و ليس – كما تعودت أوروبا طيلة العقود السبعة الماضية منذ الحرب العالمية الثانية – من رؤية ان العلاقة تحالف إستراتيجي. هذه المشكلة كانت في قلب النقاشات الرئيسية في االإجتماع السنوي لمركز السياسات الإستراتيجية التابع للمفوضية الأوروبية، أواخر العام الماضي.

العقدة الثالثة متعلقة بالتكنولوچيا الحديثة. اوروبا تدرك أن التطور في الذكاء الصناعي، و تعلُم الأجهزة، و quantum computing من أهم عوامل النجاح الإقتصادي في المستقبل القريب. لكن الفجوة العلمية هنا بين أوروبا و الولايات المتحدة هائلة. كما أن الصين قد طورت قدراتها العلمية في هذه المجالات الى حد بعيد، و هي إن كانت ما زالت بعيدة عن التقدم الأمريكي في هذه المجالات، فإنها قد سبقت أغلب دول أوروبا بمراحل. و العقدة أن الإستثمارات المالية و البشرية في هذه المجالات مهولة التكاليف و تستغرق سنوات، و أوروبا تعرف أنها قد فاتها عدد من قطارات هذه الصناعات شديدة الأهمية للمستقبل.

المعضلة الأخرى التي تفرضها التكنولوچيا الحديثة هي أنها، و بسهولة، يُمكن تحويلها الى أسلحة سياسية، كما بدا واضحاً في صراعات الإنتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، ثم في عدد من دول أوروبية في ٢٠١٧ و ٢٠١٨. كما أن الشركات الكبرى المتحكمة في هذة الصناعات، هي بشكل رئيسي، أمريكية و توسعاتها الرئيسية في آسيا. و من ثم فإن هذه الشركات لابد لها من مراعاة متطلبات الدولة الأمريكية و الدولة الآسيوية الأولى (الصين). أما أوروبا، فهي سوق مهم، و لكنه ثانوي. معنى ذلك، أن التأخر الأوروبي في هذه الصناعات بدأ يكون له دواعي على الأمن الأوروبي.

العقدة الرابعة تكمن في العلاقة بين القلب المؤسسي للإتحاد الأوروبي (و مقره الإداري، بروكسل) و بين العواصم الأوروبية المختلفة. بروكسل ترى أن التحديات التي تواجه أوروبا تستدعي تكامل أكبر، و دور قيادي أشمل لمؤسسات الإتحاد. العواصم الرئيسية التقليدية في أوروبا (و أهمها برلين و پاريس) متفقة مع ذلك الإتجاه، بشرط المحافظة على دورهما القيادي للإتحاد ككل. العواصم ذات النفوذ المتزايد في الوسط و الشرق (مثل پراج و وارسو) عندها تحفظات متعددة على توجهات بروكسل و شروط برلين و پاريس. كل ذلك يُصَعِب على هيئات الإتحاد الأوروبي مواجهة ما تراه عُقد كبرى تواجه القارة.

هذه العُقد تطرح عدد كبير من الأسئلة. و لسوف يكون تحليل هذه العُقد و محاولات الإجابة على الأسئلة التي تطرحها، في قلب العمل السياسي في أوروبا في ٢٠١٩.