فرنسا لم تقل كلمتها بعد
كتاب (فرنسا لم تقل كلمتها بعد) باع اكثر من ربع مليون نسخة في أسابيع قليلة . كاتبه ، إريك زمور ، يجول البلد محاضرًا و مناقشًا . لكن ليس كمجرد صاحب رأي في الأوضاع السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية هناك ، و لكن كصاحب مشروع تغييري .
زمور هو أقوى مرشح من اليمين الفرنسي لانتخابات الرئاسة في ربيع ٢٠٢٢ ، مع الفارق ان الرجل حتى الآن يصر انه لم يحسم أمره بعد بخصوص الترشيح . لكن من الصعب تصور انه لن يترشح . حيثما يذهب هناك الآلاف الذين يأتون لسماعه ، بعضهم من مناطق تبعد مئات الكيلومترات . و حيثما يتحدث هناك حالة من الاعجاب و الانصات . الملفت هنا هو هذا الانصات . زمور لا يحاول تقديم نفسه بشكل ملفت او بصورة تثير الاعجاب ، كما هو الحال مع الغالبية الساحقة من السياسيين . الرجل يقدم فكر بأسلوب يريد الوصول الى عقل و وجدان المستمع .
الوصول الى الوجدان معناه ليس مجرد التصويت في انتخابات ، بل الاقتناع بضرورة مساندة سياسات معينه في الداخل ، بضرورة رفض الاجنده السياسية لليسار و للوسط ، و التي يراها حكمت فرنسا للاربعة عقود الماضية على الأقل ، و بضرورة مشاركته في المشروع التغييري الذي يقدمه .
كثيرون في فرنسا و من مراقبيها يشبهون زمور بدونالد ترامب . لكن ذلك خطأ كبير ، لأن الفروقات مهولة – ليس فقط من ناحية الأسلوب الشخصي و الأفكار و طريقة التعامل مع الأخرين خاصة المنافسين ، و لكن الأهم لأن زمور رجل جاد ، و رجل يأخذه الأخرون بجدية .
و هنا الخوف الشديد من إريك زمور . لأنه ليس مجرد تعبير عن غضب – و خوف - مجموعات واسعة من الناخبين ، و لكن بلا هدف سوى الوصول الى السلطة ، و تحويلها الى أداة في يد رجل سطحي هش العقل و قليل العمق .. على العكس ، زمور يجسد فكر جاد يريد تغيير نوع السلطة الحاكمة في فرنسا .
الرجل بعيد جدًا عن فكرة الوحدة الأوروبية . بعيد عن الليبرالية الاقتصادية الأمريكية-البريطانية ، كما هو بعيد عن اشتراكية اليسار الفرنسي . لديه مشاكل كبيرة مع الأفكار التي تُسمى تقدمية حول فكرة العائلة ، حول التعليم ، حول الدين – بمعنى انه قريب من الأفكار المحافظة للأحزاب اليمينية في الغرب . زمور عنده مشكلات كبرى مع المهاجرين في فرنسا . و هو في نظر كثيرين عنصري . و لكن المهم ان سردياته حول المهاجرين لا تدور حولهم بقدر ما تدور حول فرنسا التي يتصورها – او يريدها – ملايين الفرنسيين . و هي ليست بالضرورة فرنسا بيضاء خالية من المهاجرين ، بقدر ما هي فرنسا مختلفة جدًا – و أكبر كثيرًا - من الوضع التي هي عليه الآن .
و لعل هنا مربط الفرس .. فرنسا في الوجدان الفرنسي دولة عظيمة ، كبيرة ، سيدة شديدة الجمال و الجاذبية ليس لها مثيل في محيطها ، سائرة بهدوء و ثقة نحو امجاد متتالية ، و معها و حولها ابناءها و بناتها ممتلؤا راحة الى حاضرهم و اطمئنانًا الى مستقبلهم .. لكن الحاضر مختلف تمامًا عن تلك الصورة . ليس فقط بسبب المشروع الوحدوي للاتحاد الأوروبي (الذي قادته فرنسا لعقود) ، ليس فقط بسبب الاختلافات التي فرضتها الهجرة على فكرة التعددية الثقافية داخل فرنسا ، ليس فقط بسبب الاجنده التي تسمى تقدمية حول العديد من الشئون الاجتماعية ، و ليس فقط بسبب تراجع أوروبا الشديد استراتيجيًا مقارنة بالولايات المتحدة الامريكية و الصين و حتى روسيا – و لكن مع كل ذلك ، لأن الأوضاع الاقتصادية في العالم – و خاصة صعود آسيا – تغير ببطء ، و لكن بلا رجعة ، الأوضاع الاجتماعية في كل أوروبا و في فرنسا خاصة .
خاصية فرنسا هنا نابعة من ان فرنسا لا تملك قوة المانيا الاقتصادية و لا مميزات بريطانيا كأهم جاذب للمواهب و للعقول و للمال خارج أمريكا . كما أن فرنسا تعودت على أساليب حياة شديدة الراحة (و الجمال) ، على عكس المانيا التي تعمل بلا توقف و بريطانيا (خاصة إنجلترا) ذات الأسلوب الانجلوساكسوني الصارم .
وسط و بسبب كل ذلك ، فرنسا قلقة . و هناك كثيرون يرون ان من قدموا انفسهم لقيادة فرنسا في العقدين الماضيين قاموا ببعض التغييرات و لكنهم لم يغيروا في المعادلة الجيوسياسية و الاقتصادية و الاجتماعية التي حكمت فرنسا في تلك الفترة . زمور يقدم نفسه كصاحب مشروع تغييري كامل . و الغالب ان هذا المشروع سيكون على بطاقة الانتخابات الرئاسية الفرنسية في الربيع القادم .