البورتريه فكرة أوروبية و ارستقراطية. بداياتها الحقيقية كانت في العصور الوسطى، عندما ارادت عائلات ثرية تخليد صور كبرائها، رجالًا و نساء. مع الوقت أصبحت البورتريهات علامة من علامات الانتماء الى طبقة اجتماعية معينة .. و مع دخول الثقافة الأوروبية إلى مناطق مختلفة من العالم على انها طريق التحضر و التمدن، دخل البورتريه الى صالونات البرجوازيات الصاعدة في آسيا و أفريقيا و امريكا الجنوبية.

في مصر، تلك اللوحات – الزيتية غالبًا – الموضوعة في صالونات او طرقات في ڤيلات او شقق في احياء القاهرة و الإسكندرية الراقية، و المُصلت عليها أضواء دافئة، لتُبرز ملامح هنا او نظرات هناك، كثيرًا ما بدت واحدة من تلك المعالم الدقيقة التي تدل على الانتماء الى الطبقات التي ترى في ثقافتها دوائر العلو في المجتمع. و كانت الدلالات، لمن يعرف أين ينظر، في التوقيع الموضوع على اللوحة، في سنة الرسم، في التعبير الذي خلده الفنان، و في كيفية وضع البورتريه في الصالون او الطرقات.

و لم يكن غريبًا ان التوقيع – اسم الفنان الذي رسم – كان المفتاح الأهم. ذلك ان البورتريه، و هو فن يستلزم أسابيع من التعامل المباشر بين من يرسِم و من يُرسم – يعبر عن علاقة قرب بين الفنان و العائلة و البيت. فإذا كان الفنان من كبارات العصر، كان البورتريه دليل علو و رقي و في أغلب الأحيان دليل ثراء.

لكن البورتريه، ككل الفنون، خرج من دوائر الارستقراطية و حواجز الاقتصاد. البداية كانت في إيطاليا، خاصة على يد المجنون العبقري كاراڤاچيو، الذي استخدم رجال و نساء عاشوا في افقر احياء و ازقة روما كموديلات لوجوه وضعها على لوحات مستوحاة من التراث الكاثوليكي، رُسمت لتُزين قصور كاردينالات الكنيسة و كبرى عائلات وسط إيطاليا. و مع الوقت حدث نفس الشئ في أماكن مختلفة.

و قد رأينا في مصر عبقري أخر – محمود سعيد – يأخذ البورتريه خارج جزيرة الزمالك و خارج النطاق الخفي لاحياء القاهرة الراقية، و يستخدمه ليُخلِد وجوه سيدات مصريات قادمات من دلتا النيل و من عمق صعيد هذا البلد. و مع الوقت دخلت تلك الوجوه و تعبيراتها شديدة الاختلاف عن تلك في بورتريهات رجال و نساء الطبقات العليا، الى الصالونات التي تختزن الرقي الممتنع و أحيانا المغرور، و الدائمًا الناظر لنفسه - عن حق و في نفس الوقت بعد عقود من الإغراق في الخرافات - على انه جوهر التحضر على ارض مصر العتيقة.

على أثر محمود سعيد مشى عبد العال حسن. عبد العال لم يأتي من دوائر الارستقراطية او المال في مصر. و لذلك فإن استخدامه لوجوه سيدات الدلتا و الصعيد و البادية، بدا أكثر تناغمًا من تعبيرات محمود سعيد. بدا أكثر واقعية، لأنه لم يضفي ظلال ارستقراطية على لوحاته، لم ينثر لمسات باريسية على الوجوه النيلية في بورتيرهاته .. سعيد بالطبع عبقري مجاله في عصره في مصر، لكن عبد العال معبأ أكثر بالمصرية النابعة من أرض و تراث هذا البلد.

لعل تجربة عبد العال في الصحافة المصرية كانت مفتاحه نحو التعبير عن المصرية. عبد العال عمل في المجلات القاهرية المتوجهة نحو المجموعات الليبرالية في الطبقة الوسطى. و تلك كانت طيلة الجزء الأكبر من القرن العشرين، مكمن المصرية الحديثة، مكمن فكرة مصر العربية الناظرة الى شمال البحر الأبيض المتوسط، مصر ذات الجوهر الصعيدي و الفلاحي الذي استوعب الكثير من تجارب أوروبا القريبة منها، أوروبا البحر الأبيض المتوسط .. تلك الروح المصرية التي مثلتها تلك المجموعات الليبرالية في الطبقة الوسطى في البلد كانت الإطار الذي عمل عبد العال من خلاله و له. و لذلك فإن تعبيراته عن الوجوه المصرية الحاملة لجوهر دلتا النيل و صعيد مصر و باديتها جاءت من خلال ريشة معبرة عن تجربة الليبرالية المصرية في وسط المجتمع، و ليس على قمته (كما كان الحال مع محمود سعيد).

عبد العال رحل عن هذا العالم. و تصوري ان ما تركه من لوحات، و هو ليس بكثير، سيدخل تدريجيًا في الوعي المصري على انه واحد من أرقى التعبيرات عن خلطة معينة، شديدة الجاذبية، في الوجدان المصري.