ظل الصين و مستقبل حلف شمال الاطلنطي
القاعة فسيحة. في عصور مضت كانت واحدة من أهم اماكن تلاقي صفوة المجتمع المخملي في إنجلترا. لكن في ذلك اليوم الحضور كان عسكريا في أغلبه. عشرات من قادة الجيوش الغربية، عدد من مستشاريهم في النواحي الاستراتيجية، و عدد قليل من الصحفيين و المراقبين المقربين من دوائر هامة في عواصم غربية.
الاجتماع السنوي للناتو – حلف شمال الاطلنطي - اصبح في الآونة الأخيرة مكررًا في ما يحتويه. نفس الموضوعات، المواقف، الاختلافات، و نفس النتائج. كلام كثير حول أهمية الحلف لحماية الغرب، عن الضرورة القصوى لاستمرارية الحلف، عن التكامل بين الجيوش الغربية. و في نفس الوقت، كلام متكرر من الأمريكيين حول ضرورة زيادة ميزانيات الدفاع في أوروبا، و من الاوروبيين حول زيادات بسيطة لكنها ذاهبة الى ما هو مهم. و في النهاية الاتفاق على الاختلاف.
حتى أسلوب دونالد ترامب لم يغير هذه الديناميكية في مؤتمرات الحلف.
لكن هذه المرة (و قد كانت مباشرة قبل اجتياح الكورونا للعالم) هناك نقطة هامة مفروضة من الأمريكيين على طاولة الحوار، عن التواجد الصيني في أوروبا.
في السنوات القليلة الماضية، لوحظ وجود اقتصادي متزايد، ليس فقط في التجارة بين الدول، و لكن أيضا في الاستثمار المباشر الصيني، خاصة في دول الجنوب، بداية في البلقان، ثم في اليونان و قبرص، و أخيرا في الجنوب الغربي: أجزاء من إيطاليا و اسبانيا و البرتغال.
اعقب ذلك وجود تكنولوجي واضح، بداية من شركات الاتصالات الصينية الكبرى و الآن شركات الاجهزة الالكترونية و السيارات. كما ان هذا الوجود بدأ الآن يدخل في البنية التحتية لاوروبا، و الموضوع الأهم هنا هو بناء و تطوير شبكات الاتصالات اللاسلكية في اجيالها القادمة. و هذا امر داخل في عمق الامن القومي.
الوجود الصيني ذاهب الى الجامعات و مراكز الأبحاث و الفكر. عدد من الجامعات الصينية بدأ يظهر كلاعب مهم في مجالات بحوث، سواء في العلوم الطبيعية او الاجتماعية، و في الحالتين هناك وجود (و مساعدات) صينية ذات وزن بدأت تصبح أمور عادية في اعمال جامعات أوروبية مختلفة.
و أخيرا، هناك شركات نقل عملاقة اصبح لها الآن تواجد قوي في عدد من أهم موانئ جنوب أوروبا. و ذلك مرتبط بالمشروع الصيني المهول المعروف بBelt and Road (او، طريق الحرير الجديد).
أمريكا تعرف قدرات أوروبا. و تدرك تماما ان أوروبا أصبحت بعيدة جداً عن حقائق الصراعات الكبرى. كما ان أوروبا تدرك ان الاهتمام الأمريكي اصبح الآن منصبًا على آسيا، و هي لا شك مسرح المواجهة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة و الصين. لكن بالرغم من ذلك، ما زال بين الولايات المتحدة و أوروبا ذلك التلاحم حول فكرة “الغرب”، و هي أساس النُظم الفكرية و الثقافية و الاجتماعية التي شكلت تقريبا كل مجتمعات أوروبا و المكونات الحاكمة في أمريكا.
الآن أمريكا تريد من أوروبا ان تعبر فعليا عن التزامها بذلك التلاحم، ليس فقط من خلال كلام و زيادات بسيطة في ميزانيات السلاح، و هي في النهاية في جيوش أصبحت، في المنظور الأمريكي، بعيدة عن القدرات المطلوبة في مواجهات عسكرية حديثة. ما تريده أمريكا من أوروبا هو (١) حرمان الصين من الوجود في القطاعات الهامة في الأسواق الأوروبية (و هي الاغنى في العالم) و (٢) حرمانها من استغلال الجغرافيا و البنية اللوجستية الأوروبية لصالح المشروعات الاستراتيجية الصينية مثل طريق الحرير الجديد.
المطالب المريكية واضحة. لكن المواقف الأوروبية لسيت كذلك. و هنا، كلمة الجمع دالة، ذلك انه ليس هناك موقف أوروبي واحد. كما ان التقديرات الأوروبية لخطورة الصعود الصيني مختلفة. مثلاً شتان بين رؤية المانيا و هي من هي في الأسواق العالمية و في المنافسة في دنيا التكنولوجيات و المعارف الهامة (من الاتصالات الحديثة الى الذكاء الصناعي الى الهندسة البيولوجية الى ثورة الQuantum dynamics في الفيزياء) و بين رؤية دول لديها مشاكل متأزمة في الاقتصاد و المجتمع مثل تلك في جنوب القارة.
الاختلاف في الرؤى يُولِد التفتت. و المهم ان الجنرالات الأمريكيين و مستشاريهم يرون و يفهمون ما يرون. و من بين الاختلافات و التشتت و الفروق المهولة في القدرات تظهر أفكار حول تغيرات جذرية مطلوبة داخل حلف شمال الاطلنطي (الناتو).
و بينما الأوروبيون يفكرون، يتباحثون، و يختلفون، الغالب ان الامريكيون سيسيرون في طريق فرض طرق جديدة للعمل للحلف. ساعتها، سيجد الكثير من الأوروبيين انفسهم في موقف اما البقاء و العمل تحت اجندة أمريكية خالصة، او الخروج من الحلف. لكن كما عبر مسئول أوروبي في جلسة مغلقة: الخروج الى ماذا: الدب الروسي بخطورته في الشرق، العالم العربي بمشاكله في الجنوب، و في الغرب هناك محيط كبير ليس في أخره الا أمريكا نفسها.