التجربة الناصرية .. نسمعها كثيراً، لكن هناك عدد من المشاكل في هذا المصطلح .. و للمصطلحات أهمية، فالكلمات صياغة للافكار.

المشكلة الأولى ان فيها لحظية، كما لو أن ما قام به عبد الناصر كان في فترة زمنية قصيرة، جاءت و ذهبت بسرعة. و ذلك غير صحيح، لان فترة حكم عبد الناصر استمرت أكثر من خمس عشر سنة، و ذلك بأغلب مقاييس الاجتماع السياسي عهد كامل.

المشكلة الثانية في النظر الى حكم ناصر على انه تجربة، ان التجربة تحتمل النجاح و الخطأ، و ذلك مسلم به من واضعي و مصممي التجربة. و ذلك ايضاً خطأ، لان أي قراءة جادة لتاريخ تلك الفترة واصل لنتيجة ان عبد الناصر و من كانوا حوله اختاروا سياساتهم بُناء على نظرات معينة في الأحوال الاجتماعية في مصر و في الأحوال السياسية في الإقليم و في العالم. و بغض النظر عن كفاءة او سوء السياسات و الرؤى، فمن المستحيل النظر الى إدارة عبد الناصر طيلة عهده على انها سائرة بقوة دفع الأشياء. و على ذلك ترتبت المسئولية عن الأفكار و السياسات، و بالطبع النتائج.

ذلك يأخذنا الى المشكلة الثالثة. أن فكرة التجربة تحمل معها استهتارا يصل الى حد الجريمة. فمن يجرب في مستقبل شعبه (و في حالة عبد الناصر، مستقبل شعوب كثيرة رأت فيه تجسيدا لطموحاتها) بتأسيس سياساته على مفهوم التجربة يستحق ليس فقط الحكم على نتائج تجربته، بل يستحق الإدانة على ضميره .. و لذلك فان هذه القراءة لتاريخ تلك المرحلة، و هي تحاول (كما شرحنا في اول هذه السلسلة) ان تكون متجردة، لابد لها ان تحترم فكرة ان المرحلة الناصرية كانت وراءها أفكار و رؤى بنى عليها الرجل و من كانوا حوله سياساتهم.

و اخيراً ليس معتاداً في الدراسات التاريخية ان يُطلق لفظ تجربة على عصر سياسي كانت لاختياراته و سياساته نتائج كبرى غيرت الأحوال الاجتماعية و السياسية في بلده بشكل كبير .. مثلاً، فترة حكم نابليون، بالافكار الحاكمة فيها، و بالطموحات و أيضا بالتصورات الشخصية للرجل، لا يُقال عليها تجربة، لانها مجموعة اختيارات واعية كان وراءها إرادة شخص و مجموعات امنت و اقتنعت و نفذت هذه الاختيارات .. نفس الشئ مثلا في إسرائيل. العمل الدؤوب لدافيد بن جوريون، منذ العشرينات في القرن العشرين الى اعتزاله السياسة بعد أربعين سنة، و اثناء تلك الفترة كان خلق دولة إسرائيل و اختيارات سياسية و حروب، لا يُقال عنه تجربة .. و قياسا على ذلك يمكن الحديث عن اتاتورك في تركيا و تيتو في يوجوسلافيا، و غيرهم.

المرحلة الناصرية، ليست تجربة اذن .. لكن هل هي مشروع؟

هناك الكثير مما يدعم ذلك الرأي.

أولا هناك البداية. فبغض النظر عن ديناميكيات حركة ٢٣ يوليو، فالواضح مما كُتب عنها، سواء ممن قاموا بها، او ممن علقوا عليها، ان وراءها كانت طموحات كبيرة، اجتماعية متعلقة بمصر في الأساس و في البداية، و لكنها أيضا واصلة الى المنطقة العربية و مستقبلها بعد خروج الاستعمار البريطاني و الفرنسي.

صحيح لم تكن هناك رؤية بأي معنى جاد للكلمة لذلك المستقبل. و ذلك طبيعي بمقاييس تجربة و اطلاع من قاموا بالحركة و على رأسهم جمال عبد الناصر (و هنا، ربما ينبغي الإشارة الى ان تجربة الرجل في حرب فلسطين، كانت محدودة، ليس فقط في الزمن، و لكن أيضا في الإطار) .. لكن بالرغم من هذا، بسرعة ظهرت حول الرؤية الاجتماعية لمصر ملامح لعلاقة مصر بمحيطها. و لا شك انه مع حرب السويس (١٩٥٦) كان امام جمال عبد الناصر صورة واضحة للتحولات و التحديات التي كانت أفكاره و سياساته عامل مؤثر في خلقها. و كان اختيار الرجل ان يستمر في تلك السياسات تأكيدًا ان ما يقوم به (على الأقل في رؤيته هو) مشروع ذو اهداف و طموحات بعيدة.

النقطة الثالثة الداعمة لانه كان هناك مشروع، هي حجم التغيرالذي جرى في الاقتصاد و المجتمع في مصر، و جرى لدور مصر في المنطقة، في أقل من عقدين من الزمن، و هو تغير لا يضاهيه آي شيء مماثل في تاريخ مصر منذ العصور الوسطى الى الآن (باستثناء العقدان الأولان من حكم محمد على قبل قرن و نصف من عصر عبد الناصر).

رابعاً، فإن أصدقاء و أعداء الرجل خارج مصر و العالم العربي، رأوا ما يقوم به على انه مشروع، و تصرفوا معه و مع مصر في عهده على ان ما يقوم به جزء من كل، و أن ذلك الكل هو مشروع متكامل .. بعضهم رآه مشروع يستحق المساعدة، و بعضهم رآه خطرا لابد من القضاء عليه.

هو مشروع إذن. لكن مشروع أراد ماذا بالظبط؟