البودكاست عن اللحظات الساخنة – لحظات الحريق – في الحرب الباردة .. و أسلوب التقديم، صريح، ساخر، و سريع .. و لعل ذلك من تأثيرات طباع وسط إنجلترا، و خاصة مانشستر، حيث يتم انتاج البودكاست .. و الفكرة تقديم رؤية جديدة عن الحرب الباردة لاجيال شابة.

عندما طُلِب مني ان أكون ضيف الحلقة عن جمال عبد الناصر، وافقت، لأن البودكاست، و قد حقق نجاح واسع في بريطانيا و الولايات المتحدة، يتناول موضوعاته – تلك اللحظات الساخنة في الحرب الباردة – من زوايا غير تقليدية.

في حالة جمال عبد الناصر، كان السؤال الأول: لماذا حلقة عن الرجل.

من رؤية بريطانية – و في امريكا – جمال عبدالناصر شخصية مهمة في الحرب الباردة. هو الرجل الذي تحدى الإمبراطورية البريطانية في معركة السويس في ١٩٥٦، و التي مثلت نقطة النهاية للامبراطورية. و هذا وضعه دائما في فِكْر الدوائر المحافظة البريطانية، و خاصةً الإنجليزية، في مكانة العدو .. و هو أيضاً الرجل الذي وقف في وجه المشروع الأمريكي الذي ورث بريطانيا في الشرق الأوسط، الى ان استطاع ذلك المشروع الأمريكي أن يهزمه.

بالنسبة لمستمع غربي، ذلك التحدي للامبراطورية و ذلك الوقوف في وجه العملاق الأمريكي، مثير للاهتمام – و أحيانا داعي للاعجاب، خاصة في دوائر اليسار الأوروبي، و في الدوائر البريطانية التي تنظر لتجربة الإمبراطورية من منظور أخلاقي و من ثم مُدين. و لذلك نجد اهتمام بلحظات مثل خطاب عبد الناصر في الأزهر قبل حرب السويس. و اللحظة هنا، كما ارانا التاريخ، كان ايقاد شعلة توهجت نارًا و ذهبت انوارها بعيدًا في المشرق و المغرب.

هناك أيضًا اهتمام باللحظات المعبأة بالتاريخ و المُعبرة عن مواقف كان لها تبعاتها الكبرى .. و في حالة جمال عبد الناصر، لعل أهم تلك اللحظات كانت تلك التي مثلت نصرًا له، مثل نهايات حرب ١٩٥٦ و لحظة الوحدة مع سوريا و دخوله دمشق و خروج الملايين من أهل المدينة الجميلة العريقة العتيقة للقائه و كأنه مخلِص تاريخي .. كما لحظات مثلت هزيمة له و لمشروعه، مثل انهيار تلك الوحدة و مثل الهزيمة المهينة في ١٩٦٧.

في سرد تلك اللحظات امام مستمع غربي – او مستمع عربي غير ملم بتاريخه - هناك دائما اهتمام بالدراما و بالمشاعر الإنسانية، و أهمها كيف تفاعلت مجموعات كبيرة من الناس مع تلك اللحظات .. لكن هناك أيضًا ضرورة عدم السقوط في تسطيح تلك اللحظات و تحويلها الى مشاهد درامية معبأة بمشاعر و لكنها مفرغة من الإطار التاريخي الذي اتى بها .. لذلك ضروري ابراز تلك اللحظات كمحطات في تسلسل كامل.

لكن، امام الناظر من بريطانيا او أوروبا او الولايات المتحدة، هناك سؤال حول مدى تأثير تلك اللحظات في الحاضر؟ أي، هل تتجمع تلك اللحظات في الخمسينات و الستينات من القرن الماضي خالقة مشروع سياسي جاد له صدى مسموع اليوم، و له تأثير في السياسة العالمية؟ الإجابة، بالطبع لا. و الحاصل ان المشروع الذي سطع في الخمسينات و الستينات انزوى و ضاع في الطريق، او اضاعه من تصوروه و ارادوه، و لكنهم، كما أظهر التاريخ، كانوا أقل كثيرًا من قيمة ما تصوروا و ارادوا.

و ذلك داعي لسؤال أخر، و أهم: هل لتلك اللحظات منذ ستين او سبعين عامًا تأثير في وجدان الناس اليوم؟

هناك رأي يجاوب بلا .. و في هذا التصور أن اثر جمال عبد الناصر باقي في فكرة، لا هي ماتت و لا هي ازدهرت و وصلت الى عنفوان القوة. بل سطعت في لحظة سريعة و عكست أضواءها، ثم ضاع توهجها و اختفى بريقها .. بقيت حيه، و إن أحيانًا كثيرة مثل عجوز بلا حيلة، اهملها اقربائها، فبقيت لها من الحياة مكالمات قصيرة فارغة كل حينٍ ومين. مجرد كلمات لا تسمن و لا تغني من جوع.

لكن هناك من يرى أثر باقي في وجدان مجموعات كبيرة من الناس .. و الأثر هنا في مشاعر مثل احترام الذات و تصور و السعي وراء مشروع تحرري حقيقي، تبقى فكرته حتى بعد مرور عقود من الزمن، و حتى و إن أضاعه من قادوه .. هناك ايضًا من يرون الأثر هنا موصول بفكرة كبيرة في التاريخ العربي الحديث، و هي الانتماء الى العروبة. و تلك الفكرة تغذيها الثقافة بنفس القدر الذي تضعفها السياسة.

الملفت ان الحلقة حول جمال عبد الناصر بدت ثقيلة. لم تظهر سخرية. استمع مقدما البودكاست و رأيا ان الصورة المحدودة في السرديات التقليدية لتلك اللحظات في التاريخ الذي يعرفون، في الحقيقية ثرية، و ان أي فهم جاد لها داعي للنظر من زوايا مختلفة .. لكن الأهم، كان هناك ادراك ان تلك اللحظات، بالرغم من الفشل المهول الذي ظهر فيما بعد، حوت داخلها مشاعر و آمال مجموعات كبيرة من المصريين و العرب .. و انه يجب احترام تلك المشاعر، حتى لو كان أن من تمثلت فيهم تلك الآمال، كانوا هم أقل من احترمها.