قبر الچنرال
فرنشيسكو فرانكو مشكلة اجتماعية في أسبانيا…الجنرال الذي حكم اسبانيا منذ ١٩٣٩ حتى وفاته في ١٩٧٥ يُجسد، حتى بعد اكثر من أربعين عاما على رحيله، متضادان في رؤية اسبانيا لتاريخها في القرن العشرين.
من ناحية، فرانكو كان الچنرال المنتصر في الحرب الأهلية الإسبانية، و تلك الحرب كانت واحدة من أهم مكوني الوجدان الأوروپي و الغربي في القرن العشرين. فلقد كانت الحرب التي جذبت اليها كتاب و مفكرين من ارجاء مختلفة من الغرب، جاءوا محاربون، ليس فقط بالكلمة ولكن أيضا بالسلاح. و كان بين هؤلاء الروائي الأمريكي الشهير هيمنجواي و الكاتب الإنجليزي چورچ اورويل…فرانكو أنهى هذه الحرب مُنتصراً لتصور معين لأسبانيا يراها وريثة للإمبراطورية الأيبيريه (Iberian) التي أخرجت الإسلام من أوروبا، و فتحت أمريكا الشمالية و الجنوبية للغرب، و ساهمت في إنهاء مشروع نابليون لاوروبا. في هذا التصور اسبانيا كاثوليكية (بكل ما يعنيه ذلك من دواعي تشريعية و فكرية و اجتماعية). كما أن في هذا التصور اسبانيا ملكية (بمفهوم المرجعية الفكرية، حتى و لو حكمها چنرال ليس من أسرة البوربون).
من ناحية أخرى، فرانكو هو الدكتاتور الذي أبعد الديمقراطية عن اسبانيا لعقود، و أقعد البلد طيلة الخمسينات و الستينات بعيدا عن التطورات السياسية في أوروبا الغربية، ، تلك التي ولَدَت الليبرالية الأوروبية. كما انه كان الزعيم الوحيد من التيار الفاشي الذي بقى في الحكم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (و كان ذلك بسبب الرؤية الأمريكية له لحليف في مرحلة الحرب الباردة). و في نظر مجموعات كبيرة من المجتمع الأسباني – بينها الحزب الاشتراكي الحاكم الآن – فإن هذه الفاشية كانت الداء الذي أمرض أسبانيا لعقود، و قتل فيها روح الحرية و الإبداع منذ الثلاثينات و حتى نهاية السبعينات.
اسبانيا (الدولة، قمة الهيكل السياسي) لم تحاول التوقف للتفكير في وضع فرانكو في التاريخ الاسباني الحديث – لثلاثة أسباب. اولاً: ان عودة الملكية – و على رأسها الملك خوان كارلوس حتى تنازله عن العرش منذ سنوات قليلة لابنه، الملك الحالي- جاءت بقرار من فرانكو. أي أن الرجل هو من وضع (أو أرجع) العائلة الحاكمة الى العرش. و لذلك فإن التشكيك في ما يعنيه تاريخه، و ما يُجسده هو، هو تشكيك في شرعية الملكية. ثانياً: أن اليمين الأسباني (و في قلبه، أغنى العائلات و أكبر القوى الاقتصادية، و الأهم: الكنيسة) يرى في فرانكو البطل الذي أوقف زحف الاشتراكية – و ربما الشيوعية – على اسبانيا. و اذا كان الأدب (و الpolitical correctness) يمنعهم من مدح الرجل في العلن، فهم في العمق يُجِلون دوره، و بينهم من يراه يد من أيادي الرب التي حمت الإيمان في اسبانيا من زحف الكفر (الشيوعي). و تلك هي النقطة الثالثة: أن أي محاولة جادة لفهم دور فرانكو، و أسباب بقاءه على قمة السلطة في أسبانيا لما يقرب من أربعين عاماً، لابد انها ذاهبة لتساؤلات عن الدور الهائل للكنيسة و لجماعات قريبة منها (مثل Opus Dei، عمل الرب) في السياسة الإسبانية. و هذه تساؤلات لا يريدها اليمين الأسباني في دائرة الضوء.
المشكلة ان فرانكو ما زال حاضراً في السياسة الإسبانية. و لعل قبره المهيب المنحوت في جبل على مشارف مادريد بكنيسة خاصة مُلحقة به و بصليب يمتد لعشرات الأمتار، تجسيداً على هذا الحضور. الآن – و بقرار من الحكومة الإشتراكية – و بعد نقاشات طويلة محتدة، يُنقل جثمان فرانكو من هذا القبر المهيب الى مقبرة عائلية بسيطة. لكن ما بدا لليسار في السياسة الإسبانية انتصار، هو بداية صراع سياسي. و الحقيقة ان جوهر الصراع أبعد كثيراً من فرانكو…الصراع حول الصورة التاريخية لإسبانيا في وجدان الطبقات و القوى التي حكمت هذا البلد لقرون، في مقابل قوى أخرى (ليبرالية الفكر و الهوى) ترى في هذه الصورة تراث طبقي رجعي لا يعبر عن الحياة الحالية للغالبية الساحقة من الإسبان.
كالعادة في مثل هذه الصراعات السياسية ذات البُعد الاجتماعي و ذات الصدى التاريخي، في بلاد حرة يُحترم فيها الرأي و نقيضه، لن يكون هناك انتصار حاسم لوجهة نظر واحدة. ما يحدث يكون طلوع رأي معين لفترة ثم نزوله لفترة أخرى. و تلك التسلسلات من الطلوع و النزول معبرة عن حِس المجتمع في تلك اللحظة التاريخية أكثر ما هي معبرة عن صلابة فكرة معينة. لكن المثير دائماً هو النقاش المجتمعي و الحرية في الفكر و التعبير التي تمكِن هذه المجتمعات من النظر بجدية في تاريخها.