هناك الكثير من الجمال في فِكْر ابن عربي. و من أجمل ما في ذلك الجمال، طرقه في الحديث عن الله.

البداية المتكررة كثيراً عنده هي (ليس كمثلهِ شيء)، و تلك في الإيمان الإسلامي قول الله عن نفسه، و هو قول قد يغلق الحديث و قد يفتحه. و الرائع عند ابن عربي، انه يفعل الاثنين. يغلق الحديث، بمعنى ان ابن عربي يقول لنا، دائماً، انه واصلٌ الى تلك النهاية: ان العقل الإنساني غير قادر على فهم كينونة الله .. و قد يعني ذلك انه لا داعي للتفكير في تلك الكينونة و أن كل ما سيُقال فيها غير واصل الى نتيجة .. لكن عند ابن عربي، (ليس كمثله شيء) ايضاً تفتح الحديث. فهي في رحلةِ بحثه بوابة واسعة لطريق عريض يسير فيه الباحثون، و هم كما أعلمهم ابن عربي عند بداية الطريق، غير واصلون الى كنه الخالق، و لكنهم لابد واصلون الى مشاعر عميقة لاحساسهم به، و في ذلك غالباً وصول لكُنه أنفسهم.

اول أية قرآنية يوردها ابن عربي في كتابه الأهم (الفتوحات المكية) هي: (ليس كمثلهِ شيء، و هو السميعُ البصير). و لعل الرجل أراد أن يفتتح طريقه – و لا شك ان (الفتوحات المكية) طريق – بأن يُركز على السمع و البصر، أو الإسماع و الإبصار من الخالق للساعي في طريقٍ نحوه. ذلك أن ابن عربي يتحدث بعد الأية، في مدح مقام النبي محمد، عن ما أوريَ النبي و أُسمِعَ من (حقائق الأمثال)، و تلك من الكلمات الثرية التي يجب التوقف عندها. لكن هنا، في أول الحديث، ما نقف عنده هو بداية ابن عربي بهذين الاسمين للخالق .. و هما، في تلك الرؤية، من سمات الكرم الإلهي – بمعنى ما يهبه الخالق الواحد للساعي في طريقه عن طريق إسماعه و إبصاره بالمعارف المختلفة، بما في ذلك ما في الساعي نفسه و حوله، و كله يُعرِفه بالخالق الواحد.

و لعل من اللافت ان أول بيت شعر يقوله ابن عربي في (الفتوحات) ينهيه بدعائِه للخالق الواحد أن يُنزِل عليه (معالم الأسماء). و إذا كانت المعالم مما سيُخبرنا به ابن عربي لاحقاً، فلا شك أن الرجل كان مهتماً جداً بخواص أسماء الخالق و ما تحتويه و ما تعطيه، بحيثُ أنه بدأ شعره، و هو بآلاف الأبيات في ذلك الكتاب الموسوعي، بطلب التنزيل (أو معرفة) تلك الخواص، أو بعضها.

لكن ابن عربي، كغيره ممن ساروا على طريق المعرفة، يعرف و يحفظ الأدب، و أعظم الأدب معرفة حدود الإنسان (في الطبيعة التي هو عليها في هذه الحياة)، ليس فقط في استحالة فهم الخالق الواحد، و لكن أيضاً في استخدامه للكلمات في وصف الخالق – حتى و إن كانت الكلمات من الصفات التي وصف الخالق بها نفسه، مثل (السميعُ، البصير) .. فنرى ابن عربي بعد تركيزه على الإسماع و الإبصار، يتراجع في خشوع الساعي و يتذكر، و يُذكِر قرائه بالأية (سبحانَ ربِكَ، ربِ العزةِ عما يصفُون). و النقطة الهامة لابن عربي هي أن السمع و البصر، و الإسماع و الإبصار هنا أبعد و أوسع و أعمق من الحاسة الجسدية عند الانسان. و لعل تلك النقطة تبدو بديهية لكثيرين. لكن ابن عربي، كغيره من الساعين، سواء في عوالم الإسلام او في غيرها، كانوا يكتبون للعامة و الخاصة، أي لقراء بدرجات مختلفة من المعرفة و من حب المعرفة و من القدرة على الوصول اليها .. و على ذلك، فكان على الرجل التوضيح، حتى و إن بدا ذلك لبعض قرائه واضحاً.

في بدايات حديث ابن عربي في (الفتوحات) فكرة الغيبة الإلهية. بمعنى عدم ادراك الخلق للخالق، أو كما قالها ابن عربي، عدم ادراك الحكيم قسيمه و حميمه. و للوصفين هذين أهمية. فالقسيم من يقاسمك، بما في ذلك ما قد يكون في الوجود، و الحميم شديد القرب منك. إذن غيبة الخالق عن المخلوق هي من نواقص الإدراك للمخلوق، بينما الخالق لصيق، موجود مع و في الإنسان.

و لذلك فإن أبن عربي يُحَدِث قارئه واصفاً إياه “بالحكيم”، و ذلك في الحقيقة طلب من ابن عربي لقارئه، بأن يفتح فكرَه لعلمٍ (غالباً) جديدُ عليه، و إن كان في جوهره قديم قدم الخلق.

و لذلك جاء شِعره بعد ذلك قائلاً، على لسان حال القرآن، في تصورٍ قدير: غُص في بحرِ ذاتِ الذاتِ تُبصِرُ … عجائب ما تبدت للعيانِ و اسراراً تراءت مُبهماتٍ … مُسَتَّرة بأرواح المعاني.