ليس من العادي ان يتفق واحد من أهم المفكرين السياسيين و دارسي التاريخ في فرنسا و زعيم سياسي عربي على شيء ما. لكن ريمون آرون و الحبيب بورقيبة اتفقا على ان هشام جعيط مفكر سيكون له وزن، و انه يجب الاستماع اليه.

ريمون آرون واحد من هؤلاء الذين بحثوا عن أفكار تعيد قراءة التاريخ من أجل تقديم رؤى جديدة لحركة المجتمعات. و اذا كان مثل هذا الكلام يبدو نظريًا الآن، فهو لم يكن كذلك في الستينات عندما مرت المجتمعات الأوروبية بتغيرات كبرى استطاعت من خلالها تطوير هياكل اهم الأحزاب السياسية في القارة، و ضرب اهم مراكز الإقطاع التي كان لها تأثير مهول على قطاعات مهمة في الاقتصاد، و إبعاد الكنيسة (مرة أخرى) عن السياسة بعد ان كان ظهر لها دور مهم في نهايات الحرب العالمية الثانية .. آرون رأى في كتابات هشام جعيط وعي عميق و ذكاء حاد و قدرة على إحداث تغيير. و قد عبر عن رأيه في ذلك المفكر التونسي الذي كان وقتها شابًا.

الحبيب بورقيبة قاد حملة سياسية و قانونية جمعت مجموعة واسعة في المجتمع المدني التونسي من أجل الوصول الى الاستقلال عن فرنسا. الرجل كان زعيمًا سياسيًا بمفهوم السياسة العربية قبل الخمسينات، عندما كانت القيادة في أحيان كثيرة لمفكرين و رجال قانون تتركز قدرتهم في الحوار و في وضع أفكار جادة مبنية على عقلانية، و في قدرتهم على إقناع مجموعات واسعة من الناس بتلك الأفكار .. و قد كان المشروع الأكبر لبورقيبة – في العقد الأول من حكمه – إحداث نقلة نوعية في المجتمع التونسي، تأخذه الى قناعات أوروبية بمعنى التقدم و الحداثة .. و قد رأى بورقيبة في هشام جعيط مفكر مختلف معه بل معارض شاب يُعبِر عن رأيه في النظام بوضوح. لكن الأهم، انه رأى في هشام جعيط مفكر يريد و لديه القدرة على إحداث نفس النوع من التغيير المجتمعي.

انا أتصور ان هشام جعيط أراد فعلًا ذلك التغيير، و إن لم يُصرح به في التجمعات التي عرفت بعضها عن قرب. لكنه، في تصوري، مثل كثيرين من العقول المستقلة عبر التاريخ وضع في كتاباته أفكار اكبر من الأُطر و الموضوعات التي دارت حولها تلك الكتابات .. بمعنى ان في مقالاته، و لا شك في كتبه، معاني أكبر من موضوعات محدودة الاتساع .. معاني يريد هشام جعيط بها تعليم القارئ و توسيع افق رؤيته و زيادة عمق وعيه.

و هنا تكمن أهمية كتاباته - و أهمها يدور حول التاريخ الإسلامي و خاصة السيرة النبوية و تطور السياسة في الدولة الإسلامية بعد وفاة النبي، ثم تأثير تطور السياسة في التاريخ الإسلامي على أساليب تفكير معينة سادت لقرون في مجتمعات ذات غالبية إسلامية. الموضوعات كانت كثيرًا غائصة في أعماق التاريخ و مُبحِرة في بحور الفلسفة، و أحيانًا مستعينة بأفكار من علم الاجتماع السياسي. و كان تصور أشهر من نقدوا كتابات هشام جعيط ان هدفه استحداث نظرات جديدة في تقييم التجربة السياسية في تاريخ تطور الإسلام، خاصة في قرونه الأولى. و في ذلك جزء من الحقيقة .. لكن الأهم كان التغيير الذي أراد هشام جعيط احداثه داخل وعي قارئه .. و لعلها ليست مصادفة ان عدد ممن حاوروه استغربوا ان الرجل لم يبدوا مهتما بالدفاع عن قراءاته في التاريخ و السياسة في بدايات الإسلام، و لا كان مهتما كثيرًا بنقد أفكار أخرى. لكنه كان دائما مهتمًا باساليب التفكير في الآراء التي يطرحها .. ما أراده كان تعليم قرائه و مستمعيه، و ليس بالضرورة إقناعهم برأيٍ ما.

رحيل الرجل يستحق تذكر عمله، حتى و إن اختلفنا حول الكثير مما كتب – خاصة لثلاثة أسباب. الأول انه لم يتوقف عند فكرة او اثنتين، و استمر يعيد تدويرهما لعقود، كما فعل عدد كبير من المفكري العرب الذين ظهروا في الستينات. بالعكس الرجل استمر في طرح الجديد. الثاني، انه لم يكن من هؤلاء الذين أخذتهم العزة بالإثم، فجلسوا على عروش وهمية تصوروها حقًا لهم في دنيا الفكر. على العكس هشام جعيط استمر لعقود محاورًا و مستمعًا لاجيال جديدة من الباحثين. و انا اشهد انه كان قابلًا للاختلاف، على عكس كثيرين ممن كانوا اقل منه وزنا من ناحية المؤسسات و دور النشر التي يعملون معها. السبب الثالث، انه بالرغم من تأثره الشديد بالثقافة الفرنسية و بمدارس فكرية فرنسية من القرن العشرين، لم يكن من هؤلاء في شمال افريقيا الذين رأوا في فرنسا كمالًا ثقافيا و جماليًا أغشى عيونهم و هم ينظرون في التاريخين العربي و الإسلامي. هشام جعيط كان شديد التأثر بفرنسا و الإعجاب بالتراث المهول الذي قدمته للإنسانية. لكنه حافظ على ثبات الفكر و حافظ على مسافة سلامة بين رؤاه و بين التصورات السائدة في أهم المدارس الفرنسية في النظر في التاريخ.

كتابات هذا الرجل تستحق تركيز الضوء عليها، خاصة في مصر و في المشرق العربي، حيث لم تجد بعد ما تستحقه من تأمل و حوار.