الكتاب الأول للمصورة و الأستاذة الجامعية اكسينيا نيكولسكايا كان عنا، في مصر .. كان عن التراب الذي تجمع في القصور و الڤيلات و الشقق التي شهدت و تلألأت غرفها و طرقاتها أيام الليبرالية المصرية في النصف الأول من القرن العشرين، قبل أن تُترَك، و يذهب (او يُبعَد) أصحابها، و يتجمع التراب فيها و عليها، و على ذاكرتنا بتلك الأماكن و ذاك العصر.

كتاب نيكولسكايا الجديد بعيد عنا، و لكنه قريب منها .. في ظاهره الكتاب رحلة مصورة الى قلب الصقيع الروسي حيث عاش جدها و جدتها .. ليس عن إختيار، و لكن بقرار من السلطة السوڤيتية، أيام الزعيم الحديدي جوزيف ستالين. نشاط الجد، و ان لم يكن سياسيا مباشرة، وضعه ضد اتجاهات النظام السوفيتي في عز لحظات سطوته، و كانت النتيجة سنوات كثيرة و طويلة في منفي ثلجي. اما الزوجة (جدة المؤلفة) فقد اختارت ترك حياتها الجامعية في أضواء العاصمة، و الحياة على اطراف القرية شبه المتجمدة حيث نُفي زوجها. تراه في لحظات مسروقة، و في الباقي من وقتها تدرس لابناء أهل البلدة الفقيرة.

لكن تحت الظاهر، الكتاب رحلة في التاريخ .. من الحاضر حيث تبدأ نيكولسكايا، الى الماضي حيث عاش جداها. و شريط التاريخ يمر امامنا من خلال صور المؤلِفة التي تُرينا تطور عكسي للمكان من خلال السفر أكثر في الماضي.

الكتاب ممتع و ثري، خاصة لمحبي التصوير، ذلك ان المؤلفة اعتمدت على الصور لتحكي و جعلت من الكلمات مجرد علامات ارشادية في الرحلة البصرية عبر التاريخ. لكن ثراء الكتاب يتعدى تعبير الصور. هناك التركيز على أثر السياسة (و السياسات) في المكان. هنا نيكولسكايا تغوص في التفاصيل: كيف اثرت سياسات صناعية معينة على حياة أهل البلدة، كيف أثرت قرارات تنظيمية معينة على سير الحياة. و لعل جزء من جمال السرد يكمن في اختيار المؤلفة ان لا تشرح السياسات، و ان لا تعلق علي الأفكار. هي لا تريد للكتاب ان يكون ادانة لنظام ستالين، و لا المقصود منه مهاجمة ايدولوجية حكمت دول الاتحاد السوفيتي لعقود. بساطة السرد، و الاعتماد على ما توثقه الصور، خاصة عندما تغوص في التفاصيل، يحكي ما جرى للمكان. و من خلال الحكاية المصورة يرى القارئ (او المشاهد) قصة فيها الكثير من الحزن، الكثير من الشدة، و الكثير من ضياع الجمال.

لكن هناك جانب انساني مشرق خارج من رمادية و صقيع القصة .. ليس فقط في بقاء الرجل و المرأة معاً – او على مقربة من بعد - بالرغم من سنوات النفي الطويلة. لكن في البناء و استمرارية ما قد بُنيَ .. صور اكسينيا نيكولسكايا توثق الكثير من الهدم و الضياع و السقوط .. لكن في قلب القصة التي يدور حولها الكتاب – حياة الجد و الجدة – يوجد البيت الذي بناه الجد و الذي بقى بالرغم من هجران من بنوه، و تعاقُب أخرون عليه. في بداية الكتاب، نحن نرى البيت كما هو الآن. و عبر الحكاية، تُرينا نيكولسكايا كيف تغير عبر العقود، حتى نرجع اخيراً الى لحظة اكتمال البيت، لحظة بنائه.

الرحلة خاصة بعائلة المؤلفة، و لكنها من خلال الصور العديدة، تأخذنا (نحن القراء) الى داخل حياة الرجل و المرأة الذين بنوا، و أجبروا على الرحيل، و احتملوا، و بقوا معاً، و في النهاية عادوا الى ما بنوه، الى من حيث بدأوا.

تلك الرحلة الخاصة تصبح من خلال التوثيق لمحة من تاريخ الاتحاد السوفيتي و من تاريخ روسيا .. و في ذلك ذكاء، في أخذ ما هو خاص و تقديمه للناس بشكل يشدهم اليه، و يجعلهم يرتبطون برحلة تلك العائلة، حتى و إن لم يعرفوا الكثير عن الحياة في الاتحاد السوفيتي في منتصف القرن العشرين. و لعل هنا تكمن قيمة ذلك الكتاب، في جعل التوثيق الفوتوغرافي وسيلة ليس فقط لحكي حكاية شخصية، و لكن ايضاً لايصالها لوجدان قراء و مشاهدين بعيدون عن المكان الذي دارت فيه الحكاية، و لكنهم قريبون، كبشر، من المعنى و الرسالة داخلها.

ما بين كتابها الأول عن ما ضاع من قصص و ذكريات في قصور و فيلات و شقق مصرية، و كتابها الثاني عن ما ضاع في بيت روسي (و في سنوات نفي بين الثلوج)، تحافظ كاميرا نيكولسكايا على جوانب من التاريخ لهؤلاء الذين يدركون ان جزء مهم منه يكمن ليس في الأحداث، و لكن في المكان و ما يدور عليه من أثر الناس و فِعل الزمان.