اعتقال السياسي الروسي ناڤالني فور هبوطه في موسكو قادما من المانيا حيث كان يُعالج من تسمم اتهم النظام بتدبيره، اثار حفيظة كثيرين. و لمتابعي روسيا، يبدو المجتمع منقسم بين من يرون في نافالني فرصة تغيير بعد اكثر من عقدين من حكم الرئيس بوتين و بين من يرون مثل هذا التغيير مؤامرة غربية على البلد. الحدث مهم، لكن الأكثر أهمية هو الانقسام الفكري في المجتمع – و هو مفهوم، لأن المجتمع يستشعر ان البلد يمر بلحظة هامة.

الرئيس بوتين لا شك أعاد الاستقرار و قدر كبير من الثقة بالنفس للدولة الروسية بعد سنوات الوقوع و الضياع و الفساد المهول في التسعينات، التي أعقبت سقوط الإتحاد السوفيتي. كما ان الرجل أعاد تنظيم هيئات الدولة و كما يقول بعض الروس، أعاد احياء أجزاء من الدولة بعد عقود من الترهل و الإهمال. كما انه، و المجموعة التي أحاطت به، نجحوا في الاستثمار في عدد من الملفات السياسية، سواء في الجوار الروسي او ابعد، لاحراز نجاحات استراتيجية مهمة لروسيا. و كانت بعض هذه النجاحات على حساب النفوذ الغربي بشكل عام و الأمريكي بشكل خاص. و ذلك نجاح كبير في نظر عدد من المفكرين الروس و في نظر قطاعات واسعة من المجتمع.

لكن بعد عشرين سنة من الحكم الفعلي، هناك رغبات واضحة في التغيير – ليس فقط للشخص، و لكن للفكر. و هذه نقطة متكررة تُلاحظ دائماً في الديمقراطيات الغربية الأوروبية، مثل بريطانيا و فرنسا و المانيا: و هي انه بغض النظر عن النجاحات السياسية و الاقتصادية، استمرار حكم فكر ما لسنوات كثيرة متعاقبة يولد رغبة في تجربة الأخر. و هذا واضح الآن في أجزاء من المشهد السياسي الروسي.

لكن الفرق بين الديمقراطيات الأوروبية العريقة و روسيا يكمن في كيفية التغيير. في أوروبا الأمور تسير بسلاسة في انتخابات بلا ادنى خطورة، لا على العملية الديموقراطية و لا على قطاعات الدولة. لكن كيفية التغيير – اذا جاء – في روسيا، تحتمل الكثير.

هذا الغموض و عدم اليقين يقلق كثيرين. ذلك ان المؤسسات و المجموعات الأهم في روسيا خارجة من القطاعات الأمنية صاحبة النفوذ في الدولة. و بطبيعة تلك المؤسسات، ما يدور داخلها سري، و ما يصل منه للمتابعين قليل و غالبًا جزء و ليس كل الحقيقة. و لذلك فان تفكير دوائر مهمة في القرار الروسي يبدو مبهمًا.

اللحظة التاريخية مهمة لسبب خارجي أيضًا. و هو ان أوروبا تعيد ببطء تشكيل علاقتها بروسيا. أزمة الكورونا في ٢٠٢٠ طغت على اهتمام الجميع. لكن متابعو أوروبا سيتذكرون أن المفوضية الأوروبية التي أُنتخِبت في ٢٠١٩ جاءت بأجندة چيو-سياسية بامتياز. و في قلب هذه الاجندة اعتماد أجزاء من أوروبا على الطاقة الروسية. و هو وضع يريد كثيرون في المفوضية تغييره. و الآن، مع تغيرات مهمة في دنيا عالم الطاقة، فان بعض التكنولوجيات و بعض مصادر الطاقة (و منها غاز شرق البحر المتوسط) يعطوا أوروبا أفكار لكي تقلل الاعتماد على روسيا.

هذا موضوع تتعدى أهميته الاقتصاد، و تدخل في جوهر العلاقة السياسية بين روسيا و الاتحاد الأوروبي. و في هذا الجوهر قلق أوروبي (خاصة في الشرق) من طموحات روسيا و من صورة تاريخية لروسيا ماثلة في وجدان مجتمعات دول شرق أوروبا. و المهم هنا، ان تغيرات كبرى في العلاقة الروسية-الأوروبية قد تجر معها مشاكل و توترات و ربما قلاقل في المنطقة الضيقة الفاصلة بين دول الاتحاد الأوروبي و روسيا … و قد سماها عدد من أهم المؤرخين الأوروبيون “ارض الدم”.

يزيد على ذلك، ان العلاقة الامريكية الصينية قد دخلت الآن مرحلة المواجهة الاستراتيجية، و روسيا هنا في موقف صعب. من ناحية هناك ما يجمعها بالصين، خاصة مصلحة تضييق نطاق النفوذ الأمريكي في جوارهما معا. كما ان الصين مشتري هام للغاز الروسي و عليه مورد اقتصادي كبير للدولة الروسية. لكن روسيا تدرك ان الصين اليوم - خاصة تحت إدارة الرئيس تشي جامپينج - ليست مجرد لاعب اقتصادي كبير. روسيا ترى صعود الصين كقوى عظمى، سيكون لها سياسات جديدة و أدوات عمل جديدة في كل انحاء العالم، خاصة في جوارها المباشر – و روسيا في جوار الصين المباشر. و لا شك ان الدب الروسي ينظر بتوجس لخروج التنين الصيني من مغارته.

تبقى نقطة أخيرة لأهمية هذه اللحظة لروسيا .. نقطة متعلقة بوجدان المجتمع. روسيا خرجت من القرن العشرين مجروحة، ليس فقط اقتصاديًا و لكن الأهم كمجتمع صاحب تاريخ كبير و ثقافة من الأغنى في التاريخ الإنساني الحديث. العقدان الماضيين شهدا عودة قدر معقول من الحياة الكريمة و عودة الاستقرار للدولة و للمجتمع. و مع الاثنين، عادت فكرة الدولة الروسية القوية صاحبة التأثير و الصوت المسموع في جوارها و في ما هو ابعد. لكن هناك أسباب واضحة في أسس الاقتصاد و في ديناميكيات الاقتصاد السياسي و في معادلات القوة مع اللاعبين الكبار في العالم، كلها تثير قلق حول المستقبل. و عندما يمتزج القلق بالرغبة في التغيير بعد عقدين من الزمن من حكم فكر معين، تتكون علامات استفهام علمنا التاريخ انها احيانا نهايات لما كان قبل و بدايات لما هو جديد.