هناك الكثير الداعي للتفكير في الاستراتيجية القومية للاستخبارات الأمريكية، و التي نُشرت بعض أجزائها في صيف ٢٠١٩، و قد عقْبَ عليها تقرير صادر عن مجلس العلاقات الخارجية بنيويورك.

واحدة من النقاط الهامة كانت الأهتمام الكبير بالحجم غير المسبوق من المعلومات التي يتم ضخها الآن بلا حواجز و لا قواعد عبر شبكة الإنترنت، و الكثير منها صادر من آسيا. الاستراتيجية و التقرير عبرا، بأسلوبين مختلفين، عن ما راؤه كخطر، و هو هذا التدفق المعلوماتي الرهيب مع التطور المذهل في تكنولوجيات الartificial intelligence (الذكاء الصناعي) و الquantum computing. ذلك، لأن ذلك المزيج يخلق قدرة تكنولوجية مذهلة على تحليل و التلاعب بهذه المعلومات.

التحليل هنا يتعدى قدرات العقل الإنساني. نحن امام تكنولوجيات تستطيع، من خلال لوغاريتمات معقدة (و بعضها دال على ابداع فكري و رياضي هندسي) ان تربط كميات مهولة من المعلومات و ان تتوصل من خلال التجربة و الخطأ (trial and error) الى نتائج جديدة، يكاد يكون من المستحيل على العقل الإنساني الوصول اليها في أضعاف الوقت. كلنا في الحقيقة له تجربة على قدر يسير جداً من ذلك، مثلاً في التزكيات التي تقدمها لنا بعض websites الشراء او المتخصصة في بث مسلسلات و أفلام. الظاهر الآن ان عدد من الشركات على وشك تطوير قدرات تكنولوجية تأخذ الquantum computing و ما يتيحه من إمكانات تحليل و تعامل مع المعلومات الى أفق جديد.

التلاعب بالمعلومات موضوع أخر. هنا، يلفت التقرير النظر الى قدرات ظاهرة في الذكاء الصناعي تستطيع خلق أكاذيب بصرية، خاصة في مجال الفيديو، يكاد يكون من المستحيل كشفها، حتى باستخدام قدرات تكنولوجية من نفس النوع. هذا المقال ليس المجال المناسب للدخول في التفاصيل التي يعرضها التقرير، لكن الخوف الذي يظهر بوضوح في الدوائر المهتمة بتلك الموضوعات، ان أجهزة المخابرات الأمريكية، سواءاً المتخصصة في تعقب و جمع و تحليل المعلومات بأساليب تقليدية، او تلك المتخصصة بالتجسس الإلكتروني، ستواجه تحدي كبير، يكاد يكون على الأبواب، في معلومات – او أنواع من الcontent (الصور او الأحاديث او الفيديوهات) المصطنعة تماماً و لكن التي سيكون من الصعب للغاية التوصل الى حقيقتها. و الأخطر، ان مثل ذلك الcontent سوف يكون له، بلا شك، دوي، خاصة اذا كان مستغربا…تصور مثلاً “الكشف” عن فيديو للقاء سري بين زعيمين لدولتين متحاربتين و حوار بينهما لدقائق موثق بالفيديو بشكل، ليس فقط يبدوحقيقيا لأي مُشاهد، و لكن بطريقة تعجز أغلب الوسائل التقنية على الجزم بصدق او زيف ما هو معروض. هنا، التزوير يصل الى مراحل غير مسبوقة من قوة التأثير في المتلقي. و في عالم زالت فيه الحواجز و أصبحت وسائل اتصالات و تواصل اجتماعي محددة هي مصدر المعلومات الأول (و أحيانا، الوحيد) للكثيرين، فان هذا التزوير يكاد يقترب من كونه خطر على مفهوم السياسية نفسه…و هذا هو جوهر واحد من التهديدات الذي تركز عليها الاستراتيجية الاستخباراتية الأمريكية.

تقرير مجلس العلاقات الخارجية دعا مؤسسات الأمن القومي الأمريكية المختلفة الى تبني فكرتين. الأولى هي دراسة فكرة إنشاء وكالة جديدة تتخصص في جمع و تحليل المعلومات المتاحة، و ليس تلك التي هي بالضرورة مُحجبة وراء استار. الفكرة هنا ان أجهزة المخابرات الأمريكية، بالرغم من أحجامها و قدراتها، تبدو مشغولة بما هو سري (و هو طبيعي، لان هذا جوهر عملها)، بينما ما هو علني مهول، و في تكاثر مذهل، في اركان جديدة بشكل دائم في الشبكة المعلوماتية، و كله قابل لاستعمالات مختلفة (أهمها أنواع مبتكرة من التحليلات و الاستنتاجات التي تتيحها التكنولوجيات الجديدة ذات قدرات الprocessing الغير مسبوقة).

الفكرة الثانية، هي تطوير علاقات أجهزة المخابرات الأمريكية المختلفة بالشركات النافذة في تطوير هذه التكنولوجيات، و بعضها الآن لديه ميزانيات – و قدرات تأثير lobbying - كبرى. و المشكلة، بالذات في نظر تقرير مجلس العلاقات الخارجية – ان هذه العلاقات قد ساءت للغاية في أعقاب التساؤلات و الشكوك التي ظهرت بعد انتخابات الرئاسة الأمريكية في ٢٠١٦ و ما أعقبها من تحقيقات فيدرالية و مسائلات في الكونجرس.

نبرة القلق في التقرير ظاهرة. و غالباً، هذه النبرة تعبر على السير في اتجاهات مختلفة و البحث عن أفكار و حلول و رؤى خلاقة. و لعل هذا القلق بداية تحولات مهمة في دنيا البحث عن، والتأثير في، المعرفة بمعانيها الأوسع…و هذه الدنيا واحدة من أهم أفق القوة اليوم.