خروج بنيامين نتانياهو من رئاسة الوزراء الإسرائيلية يستحق التوقف امامه. الرجل قضى الفترة الأطول في تاريخ إسرائيل في ذلك المنصب. و هو بلا شك السياسي الإسرائيلي الأكثر إثارة للجدل في العقدين الماضيين. لكن بغض النظر عن رؤى اليمين و اليسار الإسرائيلي فيه، المهم في سجل نتانياهو و النجاح الحقيقي له في العقدين الأخيرين كان قدرته ان يجعل من نفسه نقطة التقارب بين أربعة مكونات مهمة و كبيرة في المجتمع الإسرائيلي – و هي: اليمين الديني، و التجمعات الأكبر للمستوطنين، و مجموعات خرجت من حزب الليكود، و دوائر مصالح اقتصادية كبيرة كونت في العقدين الماضيين ثروات كبرى. هذه المجموعات شديدة الاختلاف عن بعضها البعض. لكن الرجل استطاع ان يجعل هذه المجموعات تدور في فلك سياسي كان هو (نتنياهو) لأكثر من عقدين نقطة المركز فيه.

خروج نتنياهو من رئاسة الوزراء سيفكك تجمع تلك المجموعات. و بالتالي و بالتدريج سنرى تجزء في اليمين الإسرائيلي.

لكن الأهم ان ذلك التجزء معبر عن تيارات في غاية التأثير في المجتمع الإسرائيلي. مثلًا هناك زيادة واضحة في التدين، بينما إسرائيل تقليديًا مجتمع ليبرالي. هناك زيادة واضحة في الفروقات الاقتصادية بينما إسرائيل تقليديا – و من حيث الفكرة المؤسسة – مجتمع اشتراكي، او على الإقل تعاوني. لذلك نرى تصورات اجتماعية تريد دولة دينية و أخرى تريد استمرار فكرة الدولة المدنية. هناك من يتحدث عن تطوير المشروع الصهيوني و هو في اصله مدني بالرغم من الدعاوى الدينية، و هناك من يريد فصل إسرائيل تمامًا عن فكرة المدنية في ذلك المشروع. هناك من يريد حلًا حقيقيًا مع الفلسطينيين. و هناك من يرون ضرورة حتمية لفكرة الصراع، و عليه يرون استمرار سياسات العسكرة المجتمعية. هناك من يريدون استمرار الفصل الاجتماعي و الثقافي لإسرائيل عن الشرق الأوسط و ربطها بالغرب. و هناك من يرون ان ذلك تكريس لعزلة في وقت أصبحت هناك فيه فرص لخلق مكان جديد لإسرائيل في تلك المنطقة.

تلك الاختلافات ابعد من السرديات الحزبية. انها في قلب تفكير المجتمع في كينونته و مستقبله. و المهم ان السياسة الإسرائيلية لم تنجح في العقدين الأخيرين ان تقدم حلول او أفكار امام تلك الاختلافات تستطيع ان تُجمِع قطاعات كبيرة من الإسرائيلين حولها. و لعل نجاح نتنياهو كان من أسباب ذلك الفشل في السياسة الإسرائيلية، لأن التجمع اليميني الذي دار في فلك نتنياهو بقى متماسكًا من خلال عدم فرض تلك الأسئلة على المجتمع و ارجاءها الى المستقبل.

لكن المشكلة أعمق. عشرون في المائة من الإسرائيلين ينتمون لمجموعات شديدة التدين و يريدون دولة دينية. بينما تقريبًا عشرون في المائة أخرون عرب. معنى ذلك ان تقريبا أربعين في المائة من السكان ضد الفكرة التي قامت عليها الدولة. و ذلك وضع مؤدي بالضرورة لمشاكل، و معظِم للتناقضات.

هناك ايضًا اعتماد متزايد على الأمن في الداخل. و قد بدا ذلك بوضوح في استخدام السلطات الإسرائيلية وسائل تأمين و سيطرة في الداخل الإسرائيلي – في قلب أهم التجمعات الحضرية هناك – ضد المتظاهرين (و الغالبية الساحقة منهم بالطبع من العرب). هذا من مظاهر صعود اليمين الإسرائيلي لأن اليسار كان دائما يتحاشى المواجهات الواسعة مع عرب الداخل. لكن الأهم ان ذلك من عوارض المشاكل الاجتماعية، لأن أي مجتمع يتعود على الاعتماد على وسائل الأمن الثقيلة لا شك ذاهب الى تطرف و مزيد من العنف.

حتى السياسة الخارجية فيها مشاكل في فترة ما بعد نتانياهو. الرجل قال – و هناك ما يدعم ما قال – ان إسرائيل ستحصد فوائد هامة من العلاقة شديدة القرب التي نسجها هو مع اليمين المسيحي في الولايات المتحدة الامريكية، و مع تيارات يمينية أخرى في أماكن مختلفة من العالم (مثلًا مع اليمين الهندوسي في الهند)، و مع بعض دول الخليج. لكن المهم ان تلك العلاقات قامت على دور نتنياهو نفسه، و قد كانت في أحيان كثيرة من فوق رأس حكومته و بدون إقتناع من بعض المجموعات التي اعتمد على دعمها للبقاء في رئاسة الوزراء. و لذلك فإن إسرائيل ما بعد نتنياهو عليها التفكير في عدد من أهم العلاقات التي اقامتها في العقد الماضي، خاصة و ان كثيرين في اليمين (و أكثر في اليسار) لهم تحفظات متعددة على هذه العلاقات.

أخيرًا، نتنياهو يخرج من رئاسة الوزراء الإسرائيلية في لحظة إسرائيل تستوعب فيها بهدوء و بعيدًا عن الأضواء صدمة حرب غزة في مايو ٢٠٢١. ذلك ان نجاح حماس في تلك الحرب له تداعيات استراتيجية. منها ان حماس جزء من تحالف كبير تقوده ايران و يضم سوريا و حزب الله في لبنان. و إحدى خلاصات الحرب انه اذا كانت حماس (و هي الطرف الأصغر في ذلك التحالف) قد استطاعت ان تحقق نجاحًا ضد إسرائيل، فإنه من الممكن ان يستطيع التحالف بأكمله ان يحقق نصرًا على إسرائيل في مواجهة قادمة. و ذلك يفرض مراجعة كبيرة في حسابات الأمن الاستراتيجي. و ذلك أمر معقد في أي حال، و بالذات في وقت تشتد فيه الخلافات الداخلية.

إسرائيل بلد شديد الأهمية لأي متابع للشرق الأوسط. و هو الآن على عتبة مرحلة مهمة تظهر فيها مشاكل و غالبًا ستظهر فيها توجهات سياسية جديدة، سيكون لها تأثيراتها على المنطقة باسرها.