من يُقال له، أمل إيطاليا الأخير
ماريو دراجي غالبا أخر أوروبي نُظِر له باعجاب في الدوائر المالية في بافاريا (و هي الأكثر حزما و ربما نجاحا في المانيا)، كما في اليونان (و هي من الأكثر احتياجا للدعم في أوروبا). ذلك ان المحافظ السابق للبنك المركزي الأوروبي كان من وفق بين مطالب القوى المالية الكبرى في أوروبا، تلك التي قدمت الدعم المالي في اصعب اللحظات الاقتصادية في العقد الماضي، و بين احتياجات الاقتصاديات الأوروبية في جنوب القارة، تلك التي وجدت نفسها امام هاوية العوز بلا مصادر دعم .. و كان انجاز الرجل انه صاغ طرق للمساعدة قُبلت من السياسين الرئيسين على الجانبين.
اليوم، و بعد انهيار جديد للتحالف الحاكم في إيطاليا، لجأ الرئيس الإيطالي (و هو بلا سلطات تنفيذية) الى دراجي ليُشكِل حكومة.
هناك أربعة نقاط قد تهم متابعي السياسة الأوروبية.
واحد: انه بعد خمسة سنوات من التغيُرات الجوهرية التي حدثت في الحزبين الرئيسين في إيطاليا، ما زال هناك فشل في وجود حكومة تستطيع ان تستمر و تتخذ إجراءات هامة، مثل إصلاحات اقتصادية لا شك ان إيطاليا تحتاجها. و النتيجة الخارجة من ذلك، ان عقدة استمرار أي حكومة في إيطاليا تتعدى مجرد وجود قيادات قديمة لم تكن قادرة على التواصل الذكي من الشباب او مع طبقات مختلفة في المجتمع، و ان العقدة في الحقيقة في وجود اختلافات جوهرية في الأفكار، و فشل أي اتجاه فكري (و سياسي) ان يحصل على عدد كبير من الأصوات و من ثم الوجود في البرلمان. هذا ادي الى تفكك في السياسة، و في البرلمان، و الى هشاشة كل الحكومات الإيطالية في الخمسة أعوام الماضية.
اثنين: اللجوء الى اقتصادي بلا أي تمثيل سياسي، و لا أي علاقة بأي حزب سياسي، سواء كبير او صغير، هو اعتراف من قمة الدولة بأن السياسة غير قادرة على تقديم حلول. و ان الحل هو الابتعاد عن هؤلاء الذين لهم مواقف سياسية، و تمثيل برلماني، و الذهاب الى تكنوقراطيين. و المشكلة ان هذه الفكرة ضاربة في صميم التمثيل السياسي و في الديموقراطية.
ثلاثة: ان مثل هذه التجربة سبق و ان جُرِبت في إيطاليا منذ سنوات قليلة. و كانت النتيجة صعود أحزاب تمثل أفكار من أقصى اليمين و من أقصى اليسار. و كان هذا الصعود أحد أسباب التفكك السياسي و هشاشة الحكومات. أي أن ما يبدو انه حل (اللجوء الى اقتصاديين محترفين، و ليس سياسيين) أدى من قبل الى مشكلة أعمق – و تلك ظاهرة ملاحظة في عدد من الدول، و ليس فقط إيطاليا، لانها تقطع العلاقة بين التمثيل السياسي و بين السلطة التنفيذية: و هذه هي أساس أي نظام سياسي يعبر فعلاً عن مواطنيه.
أربعة: هناك من يرون في ماريو دراجي كرئيس وزراء إيطاليا صعود لدور إيطاليا في السياسة الأوروبية. ذلك انه بتجربته و نجاحه في البنك المركزي الأوروبي، يمكنه (في هذا التصور) خلق دور لإيطاليا بجانب الثقل السياسي و الاقتصادي لفرنسا و المانيا. و هذا صحيح الى حد ما .. الرجل بقيمة و وزن تجربته (و هي كلها في الولايات المتحدة و بريطانيا قبل مجيئه الى قيادة البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت في المانيا) يستطيع ان يقدم أفكار قيمة، و سوف تُسمَع لانها قادمة منه هو .. لكن في نهاية الأمر، مشكلة إيطاليا العميقة ليست في طموحات ان تلعب دورا في قيادة أوروبا، و لكن ان تجد حكومة ديموقراطية تستطيع ان تتخذ قرارات هامة و صعبة، بدون ان تفقد شرعيتها في البرلمان. و ليس من الواضح كيف يمكن لماريو دراجي، بكل خبرته و نجاحاته، ان يحل تلك المعضلة – خاصة و انه، مرة أخرى، بلا أي تمثيل سياسي.
و لعل هناك فوائد عدة لنا في متابعة تلك التجربة. ذلك ان إيطاليا فيها من التفاصيل ما هو قريب من بعض مشاكلنا. كما ان فيها من التنوع في الثراء و التقدم و التأخر و الاتصال بشمال أوروبا في مقابل الالتصاق بثقافة البحر الأبيض المتوسط، ما يشبه الكثير من التناقضات في مجتمعنا .. و أخيراً، ان إيطاليا، برغم كونها دولة ديموقراطية ذات تعددية سياسية حقة و ذات فضاء اجتماعي و سياسي حر، تمر منذ سنوات بمخاض، في قلبه إخفاقات سياسية كبيرة .. و اليوم و نحن نتذكر المخاض المهول لكل العالم العربي في السنوات العشر الماضية منذ ٢٠١١، لعل هناك دروس في تجارب مختلفة تماما، و لكنها لسيت شديدة البُعد عنا.