مُعبرة و معبئة ذكرى عاشوراء .. ليس احتفال المسلمون السنة بفكرة نجاة موسى، لكن ذكرى استشهاد الحسين، و هي لدى المسلمين الشيعة الذكرى الأصعب في التاريخ الإسلامي.

قتل الحسين لم يكن مجرد نتيجة خسارة حرب. كان نقطة تحول كبرى في التاريخ الإسلامي – لعدة أسباب:

١. لان تصفية أبناء بيت الرسول، و بشكل دموي، أوضَح لكل مشاهد، و لكل طامح في الخلافة على أساس ديني او خُلُقي او على أساس سبق في الإسلام او خدمة لنشر الدين في العقود السابقة، ان الحكم الجديد (خلافة الأمويون) واصلة الى درجات عالية من العنف السياسي من أجل تثبيت ملكها. و قد وصلت الرسالة تقريبا لكل من بقوا من الايام الأولى للإسلام. (و لعل قصة خلافة عبد الله بن الزبير و صراعه مع الأمويين كانت مما ثبت الدرس، فلا أوضح بعد قتل عائلة الرسول من ضرب اعتصام بالكعبة، من أجل إخماد حركة أُخرى تطالب بالخلافة).

٢. قتل الحسين و من معه من آل الرسول ارسى فكرة العنف كطريقة لتثبيت الخلافة، و لا شك للحصول عليها. ذلك انه بالرغم من ان الخلفاء الأوائل (عمر و عثمان و علي قد ماتوا جميعاً مقتولين) فانه و حتى لحظة كربلاء كان انتقال الخلافة قائماً على القبول العام بالخليفة من خلال اجتماع رأي غالبية الطبقة السياسية الإسلامية عليه. و بغض النظر عن تفاصيل الروايات التاريخية، فقد كان ذلك واضحاً في اختيار أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي. و حتى في الصراع بين علي (و هو من هو في الإسلام، دينا و سبقا و رفعة و مكانة) و بين معاوية بن ابي سفيان، فقد كان النقاش و التحكيم السياسي في قلب المشهد، حتى (بل خاصة عندما) اشتعلت الحرب بينهما .. لكن تصفية الحسين و من معه و توجيه تلك الضربة المهولة لبيت الرسول انهت فكرة الحوار و التحكيم و القبول (سواء للطبقة السياسية او للعامة)، و ارست مفهوم القوة المسلحة كاساس للانتقال السياسي في الدولة الإسلامية الناشئة.

٣. نقطة “الناشئة” هنا مهمة. ذلك ان العقود القليلة التي سبقت كربلاء و التي جاءت بعده، مثلت لحظة الانتقال من توسع الفتوحات الإسلامية الى ترسيخ أساس دولة بما تعنيه الكلمة.
في هذه العقود القليلة من الزمن ثبت الإسلام مكانه كمظلة سياسية في شرق البحر الأبيض المتوسط و الشرق الأبعد وصولًا الى العراق و ايران و خراسان، كما ايضاً في مصر الى بدايات المغرب (في ليبيا و تونس اليوم). تلك الرقعة الواسعة، و بالطبع في وسطها شبه الجزيرة العربية، كانت العمود الفقري للكيان السياسي الذي بدأ يتشكل وقتها.
تثبيت الحكم جاء من خلال (أ) مركزية الإدارة، و قد حدث هذا بوضوح عند انتقال العاصمة الى دمشق، (ب) من خلال فرض قواعد سياسية و اقتصادية في تلك البلاد (قائمة بشكل رئيسي على الوجود العسكري للجيوش الإسلامية)، (ج) ثم على مفهوم الخِراج، أي ما تستطيع كل من هذه البلاد أن تقدمه من دعم اقتصادي، و بالذات مالي، الى الدولة المركزية. (د) من خلال قيادات كفؤة ادارت أهم هذه البلاد لفترات طويلة من الزمن. (ه) من خلال اخراج الإدارة الجديدة للدولة من دائرة الثقة في أهل الدين و السبق في الإسلام، الى استخدام كفاءات (أغلبها من أهل البلاد التي دخلتها الجيوش الإسلامية) و أحيانا كثيرة بدون أي اعتبار لديانة هذه الكفاءات. و أخيرا (و) من خلال إعطاء سلطات واسعة لحكام الأقاليم تعتمد على القدرة على استخدام درجات عالية من العنف في سبيل تحقيق الأمن و إستتباب الحكم الأموي. كل تلك العوامل شكلت أدوات الإدارة الأموية، و التي (مع الوقت) طورت الاستحواذ العسكري الى بدايات دولة حقيقية، استطاعت بسرعة أن تتحول الى امبراطورية .. و هذا نجاح سياسي.

٤. ان الانتقال السياسي الذي ترسخ بالصعود الحاسم للأمويين بعد كربلاء نقل جوهر فكرة الدولة الإسلامية الى ملكية وراثية قرشية (نسبة الى قبيلة قريش التي خرجت منها أهم البطون العربية في تاريخ الإسلام الأول، و أهمهم بالطبع بنو هاشم، فرع بيت النبي، و بنو أمية، الفرع الذي خرج منه معاوية بن ابي سفيان) .. هذا الانتقال احدث تغيير في صورة الدولة الإسلامية (امام المسلمون انفسهم) و في هيكلها الاجتماعي كما في اقتصادها السياسي. في الهيكل الاجتماعي، بمعنى انه احدث تراتبية واضحة داخل المكونات العربية للدولة، كما بين العرب و غيرهم من المسلمين .. بحيث ان الأصل العربي، و خاصة الانتماء القرشي، و بالذات الأموي، اصبح عامل، ليس فقط للفخر و لكن أيضا للدخول في هياكل السلطة. هذه التراتبية الاجتماعية عبرت عن نفسها بتراجع واضح في منزلة مجموعات السبق داخل الإسلام و نمو في مراكز (و ثروات) مجموعات النصر في المعسكر الأموي.

٥. كان من نتائج ذلك تغيرات كبيرة في الاقتصاد السياسي للدولة.. بمعنى ان تشكيلات السلطة الجديدة (خاصة في الشام و لكن أيضا في مصر) و تراكمات الثروة التي ظهرت بجانبها و نتيجة لها، غيرت تماما مكامن النفوذ في الدولة الإسلامية .. انتقلت السلطة السياسية بشكل كامل تقريبا من الجزيرة العربية و المشرق الإسلامي الى الوسط (الشام، و في قلبه دمشق) و مصر (و هي وقتها أغنى ولايات الإمبراطورية الوليدة) .. و كما يُقال في العلوم السياسية، فإن الجغرافيا حاكمة .. لذلك أدى انتقال المركز و الثقل السياسي الى تَشكُل الدولة (و الإمبراطورية التي بدت تظهر بسرعة) بملامح الشام و الى حدٍ ما بملامح مصر. مثلاً رأينا تطور سريع لاقتصاد تلك الدولة، مبتعداً عن التجارة كاساس و ذاهباً أكثر الى الزراعة و الحرف. و هذا بدوره قلل من أدوار و أهمية عائلات الجزيرة العربية (الغير داخلة في الهيكل الأموي) و زاد من نفوذ عائلات شامية و مصرية. ايضاً بدأت الجماعات المحاربة (و أهمها كان من القبائل العربية التي خرجت من الجزيرة) تفقد مواقعها في دوائر النفوذ، بينما تصعد جماعات اقتصادية و إدارية (خاصة من أهل الشام)، و كما قلنا من قبل، بعض هذه الجماعات كان من غير المسلمين. و كان هذا بداية إرساء بيروقراطية داخل الدولة الوليدة. الانتقال الجغرافي (للمركز الى الشام و للعاصمة الى دمشق) أدى ايضاً الى تغير في وجهة الرؤية و الاهتمام، من الشرق (بالذات نحو ايران) الى الغرب: الدولة البيزنطية التي هزمها المسلمون (بما فيهم الأمويون). هذه نقطه مهمة، اذ ان جزء كبير من الاستيطان الأول للمحاربين المسلمين الذي خرجوا من الجزيرة العربية في عقود الفتح الأولى كان في العراق، و قد كان اول المناطق الغنية التي دخلها الإسلام. كما ان به وُجِد جزء كبير من بقايا ثراء الإمبراطورية الفارسية التي اجتاحتها جيوش الإسلام. لكن في العراق و ايران كانت هناك ظاهرة ملفتة للنظر، و هي ان تقريبا كل الطبقات العليا في الامبراطورية الفارسية التي سقطت امام المسلمين، اختارت البُعد، و قد حدث فعلاً ان مجموعات كبيرة من هذه الطبقات العليا هاجرت الى الهند للبعد عن التدفق الإسلامي و العربي.
معنى ذلك، ان الهجرات العربية الى الشرق (و خاصة العراق) استولت على الأرض، و لكن لم يدخل المهاجرون الجدد في أعماق الحضارة التي كانت على الأرض التي دخلوها. و لذلك فانه بالرغم من احتكاكات مهمة للمجتمع الإسلامي الأول في العراق و ايران مع ثراء الحضارة الفارسية، الا ان الدولة الأولى للاسلام بقيت بعيدة عن المراكز الحقيقية لتلك الحضارة .. و لعل السقوط السريع للحضارة الفارسية امام الجيوش الإسلامية كان صدمة مذهلة لاهم مفكري و منتجي هذه الحضارة، و قد فرض حاجزا كبيراً بين من اختار منهم البقاء و بين القادمين الجدد من الجزيرة العربية. بالإضافة الى ذلك، هناك نقطة أخرى قللت من التفاعل بين المسلمين الأوائل و الحضارة الفارسية، و هي ان مركز الدولة الإسلامية في تلك الأيام كان ما زال في المدينة، بعيدا عن مراكز الحضارة الفارسية. كل ذلك لم يكن موجودا في الناحية الأخرى و السنوات اللاحقة، عندما انتقلت الخلافة الى الشام. هناك المسلمون (و فيهم القيادات الأموية) انتصروا على البيزنطيين و لكن الإمبراطورية البيزنطية نفسها بقيت في القسطنطينية. لذلك لم توجد تلك الصدمة الكبرى التي كانت في ايران و العراق مع سقوط الإمبراطورية نفسها. أيضا في الشام كان أهل البلاد انفسهم ليسوا أصحاب الحضارة البيزنطية بقدر ما كانوا مشاركين فيها. و هنا تجلى ذكاء الأمويين و خاصة معاوية. ذلك ان الرجل اختار ان يشرك عدد كبير من كبراء الشام في الهيكل الإداري الذي كان يبنيه. و اخيراً ان القيادات الأولى للدولة الإسلامية (و خاصة عمر بن الخطاب و بعده عثمان بن عفان) اختارا ان يعطيا معاوية قدرا كبيرا من حرية الحركة لم يكن موجودا لدى الولاة المسلمين الأوائل في الشرق (و خاصة في العراق).

٦. هنا يظهر التأثير السياسي و الثقافي الأكبر لانتقال مركز الدولة من الشرق (العراق) الى الغرب (الشام و بامتداد تأثير سياسي و اقتصادي قادم من مصر) .. و هو ان بدأت الدولة الإسلامية أن تخرج من اطارها الصحراوي و البدوي و تأخذ الكثير من رونق ثقافة البحر الأبيض المتوسط. و لا شك ان ذلك أحدث تطور هائل في العقل المفكر في الدولة الوليدة .. تطور ساعد كثيراً على الارتقاء الى مرحلة الإمبراطورية.

٧. لكن هنا تصطدم السياسة بالمعنى، و ربما بالروح .. بمعنى ان لحظة ترسيخ الدولة الأموية – و هي لحظة انهاء ثورة الحسين من خلال إبادة شبه جماعيه لجماعته و بأسلوب قاسي و دموي – أفقد الدولة و الإمبراطورية الناشئة الوصل بين مستقبلها و بين ماضيها، خاصة الجانب الروحي في ذلك الماضي، و هو من قبل و من بعد، العنصر الرئيسي الذي قامت عليه اندفاعة الإسلام الاولى، سواء داخل الجزيرة العربية او في لحظة الفتوحات الأولى .. ذلك أن الحسين، بنسبه و قربه الخاص من الرسول و حَملِه احتمالية تكملة مشروع علي بن أبي طالب (و هو مشروع ليس فقط إصلاحي من ناحية سياسية، و لكن ايضاً تنويري بمقاييس تلك الأيام)، و بالإضافة لكل ذلك، فإن الحسين بتاريخه و شخصيته (التي نقلها التاريخ لنا من خلال اقوال و مواقف هناك الكثير مما يوثقها) مَثَلَ معنى و استمرارية روح تلك الاندفاعة الأولى داخل السياسة في الدولة و الإمبراطورية.

٨. هناك من يركز على الانقسام العقائدي – سنة و شيعة – الذي بدأ يتأطر بعد كربلاء .. و هذا طبعاً مهم، و لكن نقطة بُعد السياسة (بعد كربلاء) عن روح الاندفاعة الاولى للاسلام يستحق توقف و تفكير. ذلك لأن كل النقاط التي قدمتها فوق (حول السياسة و الاقتصاد السياسي في لحظة التحول تلك) طورت الدولة لكنها أخذتها في اتجاه فكري و فلسفي مختلف تماما عن ما كانت سائرة فيه من قبل. هنا، لابد للمفكر في التاريخ الإسلامي ان يتوقف و لو لثوان امام لحظة “ماذا لو” .. ماذا لو لم تحدث كربلاء .. او طبعاً ماذا لو لم يُغتال علي بن الي طالب قبلها بعقدين من الزمن .. ماذا لو سارت الدولة الإسلامية في الاتجاه الفكري (و الروحي) الذي كانت عليه من قبل، و الذي كان من المؤكد سيأخذ اندفاعه هامة تحت قيادة مُفكر مُبدع ذو عقل ثري و واسع: الإمام علي بن ابن طالب .. هذه الثواني من “ماذا لو” تُظهِر الاختلاف المهول الذي احدثته لحظة الانتقال هذه، و التي ترسخت تماما بعد كربلاء.

٩. لذلك، فإن عاشوراء لابد ان تكون، لكل المسلمين، لحظة تذكر ليس فقط قتل الحسين (و ما تستدعيه من حزن)، و لكن أيضا التفكير في التحول الحاسم الذي احدثته في التاريخ الإسلامي. و لعل بين الذهول من قسوة ما حدث لحفيد الرسول و آل البيت، و بين تراكمات البُعد بين التجربة النفسية للمسلمين السنة و تلك للمسلمين الشيعة، تبقى طرق مختلفة للتفكير في أهمية تلك اللحظة .. طرق تأخذ الناظر في التاريخ الى ابعاد السياسة و الثقافة و تطور الدولة و نشأة الإمبراطورية .. و بين طرق تذهب بنا الى التحول الذي حدث في المجرى الفكري و الروحي .. فما كان قبل كان شديد الاختلاف عن ما كان بعد.