معرض لطيف في لندن هذه الأيام، بمناسبة مائة عام على أول زيارة قام بها الملك فيصل للمدينة. وقتها كان الأمير الصغير، في الثالثة عشر من عمره، يمثل والده في زيارة للعواصم المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، و خاصة لباريس حيث كان يعقد مؤتمر فرساي الذي حدد معالم السياسية الدولية بعد الحرب. و كانت لندن، بُعد دلهي في الهند، مستقرا لعدة أسابيع قبل الوصول الى عاصمة النور: باريس.

المعرض مثير للاهتمام، لثلاثة أسباب.

واحد .. انه يقدم وجه انساني للملك فيصل، بعيداً عن السياسة، سواء السعودية او الإقليمية للشرق الأوسط. و فيصل، بغض النظر عن كونه واحدًا من أهم ملوك السعودية، خاصة في الشأن الاستراتيجي، فهو أيضاً شخصية جذابة. الرجل، بحكم عوامل في تربيته، كان قريباً ثقافيًا من الحجاز، على عكس كل ملوك السعودية قبله و بعده، الذين مثلوا، بدرجات مختلفة، طبيعة نجد في وسط الجزيرة. و الإختلاف كبير بين نجد و الحجاز، ذلك أن الأولى هي قلب الصحراء .. تمركز انساني في مكان مقفر، كان منذ نشأته بعيدًا عن كل مراكز الثقافة العربية، و لذلك كون لنفسه شخصية خاصة ترسبت فيها كل مقومات الصحراء .. ما هو نبيل و راقي و ما هو جاف و فقير.. الحجاز، على العكس، كان منذ القدم مركز تلاقي ثقافات و أساليب حياة، سواء لمكانه على طريق التجارة بين الشام و اليمن، او بسبب علاقات متشابكة ربطته مع الشام و مصر. فيصل شرب من كل ذلك. ثم جاء بعد ذلك قرب من تركيا بحكم المصاهرة، و تركيا، او إسطنبول بالأخص، هنا تمثل ما تراكم من قرون من كونها عاصمة الخلافة الإسلامية، بما في ذلك من عز و ثراء. و كان الحاصل ان الأمير استوعب جزء من ذلك في وجدانه. و لعل من يتتبع سيرة الرجل، سواء أيام ولايته للعهد او اثناء سنوات ملكه، يرى في الكثير من سياساته، حصيلة ذلك الذي تراكم في عقله و شخصيته، خاصة في سنوات طفولته و شبابه.

اثنين .. المعرض أيضاً يلقي الضوءعلى العلاقة الخاصة التي ربطت بريطانيا بالمملكة السعودية، خاصة في سنوات نشأة المملكة. في تلك الأيام كانت بريطانيا ليس فقط القوة القادرة على ترسيم حدود و خلق او محو ممالك، لكنها كانت أيضاً الوجهة التي ينظر اليها ملوك و أمراء الشرق الطالبين التمدن و التعلم. و لذلك فإنها لم تكن صدفة أن واحد من أهم مستشاري الملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس المملكة، كان إنجليزيا (سانت جون فيلبي) و ذو تاريخ عريض مع عدد من أهم مؤسسات النخبة البريطانية، بما فيها المخابرات العسكرية (و قد شاءت الصدف ان يكون ابنه، كيم فيلبي، الجاسوس السوڤيتي الأهم في بريطانيا في القرن العشرين). في هذا المعرض، نلمس من بعيد، و ربما على استحياء، بعض من معالم ذلك القرب البريطاني-السعودي في السنوات الأولى للدولة .. كما، اننا نلمس الملامح الإنسانية في هذا القرب .. كيف تفتحت العيون القادمة و الناشئة في الصحراء على أوروبا، و خاصة على لندن.

ثلاثة .. المعرض طموح .. الظاهر بوضوح ان الهدف هنا ليس فقط تقديم صورة إنسانية للملك فيصل، و لكن تقديم فيصل كشخصية فذة يجب وضعها على قدم المساواة مع أكبر سياسي القرن العشرين. و بغض النظر عن الاتفاق او الإختلاف مع تلك الفكرة، فإن ذلك الهدف بعضه انساني، و بعضه سياسي. الإنساني هو رغبة أبناء الملك، و خاصة الأمير تركي الفيصل (و قد كان واحد من أهم رؤساء المخابرات السعودية قبل أن أن يصبح سفيرا في لندن) في تبجيل والدهم و إظهار إنجازاته لجمهور كبير و عالمي. الجانب السياسي، هو أن المملكة السعودية، و بالرغم من عقود من الثراء المهول و النفوذ الهائل على واحدة من أهم الصناعات في العالم (الطاقة)، و بالرغم من استثمارات كبرى في عالم المال و الأعمال و الاتصالات و الإعلام، ما زالت لاعب قليل التأثير في عالم الفكر و الأفكار و الأراء، خاصة في الدوائر الواصلة الى عموم المجتمعات الغربية. و لعل مثل هذا المعرض وسيلة، و لو بسيطة، لتقديم المملكة و العائلة السعودية بأسلوب جديد لهذا الجمهور.