هنري كيسنجر لا يعيش على ماضيه. الرجل ما زال يكتب و يحاضر و يشير بأراءه على عدد من المؤسسات و الدول .. كل ذلك و هو على مشارف المائة عام. و المهم ان لارائه تأثير ، و ذلك أوضح ما يكون في توجهات الولايات المتحدة نحو الصين ، و تلك بالطبع واحدة من أهم ملفات السياسة الأمريكية إذ لم تكن أهمها في هذه اللحظة.

لعل اقترابه من هذا السن و استمرارية تأثيره هو ما دعى عدد من الكتاب الأمريكيين لكتابة كتب جديدة عنه. واحد من تلك الكتب الجديدة كتبه باري جيوين ، و هو صحفي له أكثر من ثلاثين عام خبرة في كبريات صحف الساحل الشرقي للولايات المتحدة. جيوين ليس قريبًا من كيسنجر ، و لذلك فإن كتابه نظرة من بعيد ، لكنها نظرة تستحق التوقف امامها.

جيوين يبدأ بتحديد الاتهامات الرئيسية التي توجه من كثيرين ، سواء في الولايات المتحدة او أوروبا ، الى كيسنجر. لكن جيوين لا يركز على السياسات التي يراها كثيرون خاطئة و لا على النتائج التي يصفها كثيرون بالكارثية ، و لكنه يركز على القيم في عقل كيسنجر ، و التصورات حول المجتمعات الإنسانية ، التي دعت كيسنجر لتشكيل اهم سياساته.

الكتاب إذًا محاولة لفهم كيف يفكر كيسنجر، و كيف تشكل فكره من خلال ما عاشه ، من خلال تجاربه الشخصية ، و من خلال الأفكار التي تعرض لها في شبابه و كيف تعامل معها.

جيوين يأخذنا الى البداية ، في المانيا النازية. هنا نحن امام عرض تفصيلي لأثر صعود هتلر و الحزب النازي على التجربة الحياتية لمراهق يهودي في المانيا في تلك الفترة. لكن قيمة الكتاب انه لا يركز على الجانب النفسي و لكن الفكري. أي انه يعرض بتفصيل كبير كيف كونت تجربة المجتمع الألماني التي عاشها كيسنجر – و التي كتب عنها فيما بعد تحليلات واسعة - رؤيته لقدرة الديموقراطية على المحافظة على القيم الليبرالية ، حتى في مجتمعات ذات تراكم مهول من الثقافة شديدة الرقي.

بعد ذلك جيوين يأخذنا الى تجربة المهاجر الألماني الشاب الذي خرج و عائلته تاركين المانيا الى الولايات المتحدة و تأثير العيش في بروكلين في نيويورك على عقل هذا الفتى . جيوين يأخذ وقته - و عشرات الصفحات - في شرح رؤيته لتجربة العائلة و كيف أثرت هذه التجربة على الشاب . و المهم هنا التركيز على التناقضات الشديدة التي واجهها المهاجرون الاوروبين عند قدومهم للولايات المتحدة في الثلاثينات و الأربعينات.

المرحلة اللاحقة هي تجربته كمجند في الجيش الامريكى في نهايات الحرب العالمية الثانية و كيف رأى بلده الأم، المانيا، و خدم فيها كعسكري امريكي في اثناء تلك التجربة . و تلك تجربة ثرية حيث تتضارب الهويات و يواجه المرء أسئلة صعبة عن الثقافات و تأثيرها على الشخصية ، و ذلك واصل الى جوهر الانتماء.

بعد ذلك ، نرجع مع كيسنجر الى أمريكا حيث يستكمل تعليمه الجامعي ، ثم نخرج معه من مرحلة الدراسة الى التدريس فنرى كيسنجر الأستاذ الجامعي و المشارك في مجموعات تفكير في عدد من اهم مراكز العلاقات الدولية في الولايات المتحدة . ثم بعد ذلك نذهب مع كيسنجر إلى دوائر السياسة أولًا في الحزب الديمقراطي ثم الجمهوري ثم الى مراكز صنع القرار في البيت الأبيض و وزارة الخارجية .. و في كل ذلك تركيز جيوين على تشكُل عقل كيسنجر – خاصة على الصراعات الفكرية التي يواجهها . و هنا تبرز نقطة مهمة ، غالبًا ما تكون بعيدة عن فِكْر من لا يعرفون الولايات المتحدة جيدًا، و هي حجم التناقضات في المجتمع الأمريكي ، بما فيه على القمة ، و كيف ان هذه التناقضات تعبير عن اختلافات مهولة ليس فقط بين مكونات المجتمع الأمريكي ، و لكن أيضا في تفسير التجربة الامريكية منذ بداياتها.

حتى في الجانب الشخصي ، في علاقات كيسنجر ، في زواجه ، في صداقاته ، في المحيط الاجتماعي الذي بدأ يدخل فيه ، جيوين يربط الظاهر، ما كان حول كيسنجر ، بالداخل ، الأفكار و التصورات .

المحصلة من هذه الرحلة داخل فِكْر كيسنجر ليست فقط فهمه ، و لكن فهم لماذا دفع الرجل نحو اتخاذ سياسات معينة . و اذا كانت هناك نقطة جوهرية خارجة من الإبحار في كل تلك الجوانب و المراحل من حياته و تفكيره ، فهي القناعة التي تكونت ببطئ و لكن بقوة و على مدى عقود داخل عقل كيسنجر ، بهشاشة النظم السياسية و القيم التي يظن كثيرون انها ثابتة في مجتمعات متقدمة بينما هي واهية و قابلة للكسر ، أحيانًا ببساطة . من هذا المنطلق ، فان كتاب جيوين في عمقه دراسة لفكر كيسنجر حول لماذا تتكرر المأسي في مجتمعات كثيرة عبر التاريخ . و كيف ان تلك الرؤية (التي لا شك سيصفها كثيرون بالتشاؤمية) كانت في خلفية السياسات التي صاغها كيسنجر ، و قد كانت تلك السياسات في قلب تعامل الولايات المتحدة مع مجموعة من أهم الملفات في العالم في العقود الخمس الماضية.