في كتابه عن النظام العالمي، يُقسِّم هنري كيسنجر العالم على أساس جغرافي، لكنه يُحلله عبرَ عدسة ثقافية. يأخذنا كيسنجر في سلسلة من «التأملات» في النظام العالمي تُمثِّل رحلةً تبدأ من اللحظة التي توافقت فيها القوى العالمية على «نظام» لسير العلاقات الدولية، ثم التوقيع على معاهدة وستفاليا في عام 1648 بنهاية حرب الثلاثين عامًا، وانتهاءً بيومنا هذا.

يشرح كيسنجر في فصول كتابه كيف تطوَّرت الرؤى المختلفة بشأن النظام العالمي - الأمريكية، والصينية، والأوروبية، والهندية، والإسلامية، واليابانية، والروسية – من خلال، ما يراه هو، التجارب التكوينية والتحوُّلية التي مرَّت بها كلٌ من هذه المجتمعات. يتوقَّف عند الأدوار التي لعبتها الشخصيات التاريخية الرئيسية؛ ويتعمَّق في المزايا الثقافية الفريدة لتلك المجتمعات، و يربط بين التجارب، وأدوار القادة، والتراث الثقافي، والصدمات التي شهدتها المجتمعات. …كل ذلك برزانة و ذكاء، و لكن أيضاً بانتقائية.

كما أن هذه التحليلات أمريكية بشكل جلي، و قديمة الطراز قليلًا. ففي حين يُضفي معظم الخبراء الاستراتيجيين الأمريكيين الحديثين على طروحاتهم تفنيدًا جادًا للسياسة الخارجية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تفتقر تأمُّلات كيسنجر بشأن رؤية أميركا للنظام العالمي إلى أي نقد حقيقي لتاريخ صعود النفوذ الأميركي في العقود السبعة الماضية. ينقص ذلك من قيمة رؤيته، كما انه يجعلها أقل فائدة لصنَّاع القرار الأميركيين.

على النقيض من ذلك تأتي مناقشة كيسنجر للمنظور الصيني؛ فيرتكز فيها على تقديراته بشأن التاريخ الصيني، والثقافة، وهيكل السلطة في الصين، التي عرضها في كتابه السابق On China. تحمل حججه ولهجته احترامًا واعترافًا بالعبء الثقيل الذي تضعه خبرة الصين الهائلة على تشكيل منظورها بشأن «النظام العالمي». ولكن كيسنجر يبدو صريحًا في عرضه لأفكاره بشأن الصعود الصيني في القرن العشرين؛ فيوجِّه اللوم لمَن يستحق. أبرز من يوجِّه له اللوم هو ماو تسي تونج وسياساته الاجتماعية والاقتصادية الكارثية التي أدَّت إلى مجاعة كبرى وخسارة الملايين من الأرواح. يفعل كيسنجر الشيء نفسه مع تجارب الدول الأخرى، مثل الالتزام الهندي ، لعقود، بنموذج اشتراكي مُعتمد على الدولة، أدَّى إلى خنق روح المبادرة تحت وطأة هيكل الدولة العملاق. وهكذا يتجلَّى بالمقارنة أن تحليله للتجربة الأميركية في العقود السبعة الماضية قد جاء مُتساهلًا في أفضل الأحوال.

يأتي عرض كيسنجر لوجهة نظر الإسلام للنظام العالمي مثيرًا للاهتمام؛ فيبني نظرته على تمييز بعض فقهاء الدين الإسلامي بين «دار السلم» (ما يُعرِفه بعضهم على انه أراضي إسلامية) و«دار الحرب» (بقية العالم)؛ ويستخدم هذه الفكرة كمنصة إطلاق لتفسير لماذا الإسلام، في تقديره، رافضًا لأي «نظام» غير هذا. في بداية الفصل على الإسلام، يُقدم كيسنجر توضيحا من أن الآراء التي انتقاها إنما تُمثِّل واحدًا فقط من آراء عديدة شكَّلت الفكر الإسلامي، وتعاطيه مع العالم. إنه تحذير ذكي وصحيح، ولكنه لا يجيب على السؤال عن السبب في اختيار هذه النقطة تحديدًا لتمثيل وجهة النظر الإسلامية من بين وجهات نظر غنية ومتنوعة أنتجتها عشرات من المدارس الفكرية الإسلامية على مرِّ القرون الماضية. الجواب المحتمل هو أن كيسنجر اختار مدرسة فكرية إسلامية تعكس، في رأيه على الأقل، القوة الأكثر فعالية في العالم الإسلامي في الوقت الراهن.

ومن المثير للاهتمام أن كيسنجر يميَّز بين المنظور الإسلامي والإيراني. وأظن أن دافعه في هذا عاملين اثنين: الأول هو افتتانه بـ«الثقافات». إن الحضارة الفارسية خلابه؛ فهي تنطوي على رؤية فريدة من نوعها للعالم، تضع بلاد فارس في مركز العالم المتحضر، وتقيس صقل و تحضر الآخرين من خلال قربهم أو بعدهم عن الهوية الفارسيِّة. أما السبب الثاني فقد يكون خبرة كيسنجر الشخصية. في سبعينات القرن الفائت، حين كان مهندس علاقة أميركا مع الشاه محمد رضا بهلوي؛ و هذه تجربة اتاحت له التعرف على الرجل، وعائلته، وتاريخه، و بلده، وما شكَّل معالم رؤيته للعالم.

بالرغم من ذلك فإنِ اختيار كيسنجر التركيز على ثنائية (داخل فكر معين في الإسلام) بين السلم والحرب، واقتطاع السلفية الجهادية كقوة حاسمة في العالم الإسلامي اليوم، وفصل صقْل بلاد فارس عن بقية العالم الإسلامي، يوضح كيف ترى نخب مؤثرة – في الغرب و الشرق – العالم الإسلامي. لا يرفع كيسنجر رايات التحذير من العنف، و لا يشترك في هستيريا «أسلمة الغرب». إن أطروحته أكثر ذكاءً من ذلك؛ فهو يقول إن العالم الإسلامي يُدفَع ببطء إلى خارج النظام العالمي، على يد المسلمين أنفسهم.