المشكلة الأولى للبنان امام العالم ان العالم يتوقع السئ ان يحدث ، و لذلك عندما تحدث مشاكل رد الفعل الأول لكثيرين من المتابعين هو اعتبار ان البلد بالضرورة ذاهب الى دم و فوضى .

كان هذا جو دوائر دولية كثيرة إثر سقوط قتلي و عشرات الجرحى في المواجهات في بيروت في أكتوبر ٢٠٢١ .. و لعله من واجب من يفهمون لبنان ان يوضحوا ان الفوضى و الدم ليسا بالضرورة النهاية الحتمية للمشكلة اللبنانية الحالية . تلك واحدة من الاحتمالات ، لكن هناك احتمالات أخرى ، من الخروج من العقدة التي عليها البلد منذ عقود الى تغير شكل البلد . و في كل ذلك الحرب و الدم ليسا ضرورة .

هناك رؤية ضيقة لما يحدث في لبنان هذه الأيام . في هذه الرؤية الصراع يدور حول التحقيق في انفجار مرفأ بيروت ، و هو الانفجار الأكبر في كل تاريخ الشرق الأوسط و شمال افريقيا . في هذه الرؤية التحقيق سوف يفتح ملفات كبيرة من الإهمال الجسيم و الفساد و استغلال النفوذ ، ليس بالضرورة متعلقة بالانفجار ، لكن من خلال أن البحث وراء الإهمال في مكان سيجر اهمال و فساد في مكان أخر و هلم جرا . و على ذلك فالفكرة هي، لماذا سنحاسب بعض المهملين و الفاسدين و نترك أخرين . و عليه فالمطلوب تسويف التحقيق . في المقابل هناك من يرون في هذا الانفجار الضربة الأكبر لبيروت ، العاصمة و المركز ، كما ان هناك مئات ماتوا و آلاف تحطمت بيوتهم ، و عليه لابد من التحقيق حتى و إن أصبح صندوق باندورا بما فيه من مشاكل و شرور .

لكن هناك رؤية أوسع ، ترى أن النظام السياسي-الاقتصادي الذي حكم لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية في بداية التسعينات و خاصة منذ الانسحاب السوري في ٢٠٠٥ ، قد وصل الى نهايته ، و أن كل الأطراف اللبنانية تعرف ذلك ، و الأهم تستعد له . و هنا مربط الفرس في هذه الرؤية ، و هو ان كل ما يجري من اشتباكات سياسية و تطورات و مشاكل اقتصادية و مواجهات امنية هو إعادة تموضع كبير لكل الأطراف اللبنانية استعدادا لتغيير قادم لا محالة في ذلك الهيكل السياسي-الاقتصادي .

هناك رؤية أوسع حتى من تلك .. هي ان الكثير من اللبنانين يعرف ان الصياغة التي قام عليها لبنان الكبير منذ قرن من الزمان هي التي وصلت الى ضرورة التغيير . و التغيير هنا يتعدى إعادة تشكيل الهيكل السياسي-الاقتصادي الى إعادة تفسير معنى الدولة في لبنان . ذلك مؤدي بالضرورة الى تساؤلات حول هوية الدولة و موقعها من و في المحيط حولها و علاقتها بالصراعات الكبرى الدائرة في ذلك المحيط . و حيث ان هناك أجوبة متضاربة – و ليس فقط مختلفة تمامًا – لهذه الأسئلة لدى اللاعبين الأساسيين في لبنان ، فالغالب أن التغيير القادم سيكون في صياغة الدولة نفسها .

هنا تظهر احتمالات مختلفة من اشكال الدولة ، من الفيدرالية الى درجات مختلفة من اللامركزية . لكن النقطة الرئيسية في ذلك التفكير هو انه إذا كان هناك تغير قادم في صياغة الدولة نفسها ، فلا شك أن التفاصيل – بما فيها التحقيق في انفجار المرفأ – لابد ان توضع في إطار إعادة التموضع و الاستعداد لما هو قادم .. ذلك ان إعادة صياغة الدولة عادة لا يكون نتيجة أحاديث هادئة على اكواب شاي ، بل نتيجة ما تفرضة مقاييس القوة .

لكن التغيير ، حتى في صياغة الدولة لا يعني الحرب و الفوضى ، و لا يستدعي بالضرورة دماء . هناك حالات كثيرة في التاريخ – بما فيها في تاريخ لبنان نفسه – التي حدث فيها تغيير جذري في صياغات و أحيانا مكونات مجتمعات بدون الوصول الى صراعات دموية .

كما أن فكرة تغيير صياغة دولة ما ليست بالضرورة خطر. ذلك انه اذا ثبت ان هناك فكرة معينة ، براقة و جميلة ، و لكنها غير قابلة للوجود تحت تجارب مختلفة على مر عقود متعاقبة و تحت افكار سياسية عديدة ، و إذا كانت النتيجة المتكررة هي احباط وراء احباط ، فإن فكرة إعادة الصياغة لا تكون بالضرورة شر مطلق . على العكس ، ربما ، كما كان الحال في مناطق مختلفة من العالم ، في التغيرات الكبرى ارتياحات و انطلاقات كبرى .

متابعة لبنان في غاية الأهمية لأن لبنان واحد من أهم مسارح المواجهات الاستراتيجية في كل المنطقة من الخليج الى شمال غرب افريقيا . و فهم لبنان يستدعي فهم الصورة الأكبر ، ليس فقط الى اين هو ذاهب غدًا ، بل تصور صيغته السياسية و الاجتماعية بعد غد .