حديث أمين
القاعة الفسيحة داخل المعبد بدت غريبة و هي خالية الا من سكرتير المعبد و من جون ماجور، رئيس الوزراء البريطاني السابق و ربما أخر عمالقة حزب المحافظين.
المعبد واحد من اثار المجموعات المسيحية المنظمة التي لعبت أدوار هامة في السياسية الأوروبية في العصور الوسطى و خاصة في فترة الحروب الصليبية. و هو و غيره الآن مباني جميلة ذات عبق تاريخي، و حاملة على جدرانها و اسقفها رمزيات مختلفة لدارسي التاريخ و خبايا الثقافات.
في الأحوال العادية المحاضرة السنوية لاعضاء هذا المعبد حدث كبير تمتلئ فيه القاعة بحضور يضم عادة وجوه معروفة في عالم السياسة و الثقافة و المال. لكن ذلك اليوم من خريف ٢٠٢٠ في الظروف التي فرضتها الكورونا، خلت القاعة الا من هذين الاثنين: سكرتير المعبد و جون ماجور.
ماجور بدا متجهماً، و قد كان التجهم مناسباً للرسالة التي حملتها كلمته. خلال تقريبا نصف ساعة وضع رئيس الوزراء السابق صورة واضحة عن وضع بريطانيا في العالم اليوم. و كان اهم ما قاله:
- ان بريطانيا قد بَعُدَت كثيراً عن مكانتها كدول كبيرة، و انها الآن على أعلى سلم الدول متوسطة القوة (و القوة هنا هي مجموع العوامل السياسية و الاقتصادية و العسكرية و الثقافية التي تستطيع بها دولة ما ان تحقق مصالحا و أهدافها).
- ان قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي (الداخل حيز الفعل في نهاية ٢٠٢٠) سيأخذ من بريطانيا أسباب قوة اعتمدت عليها في الثلاثين عاماً الماضية.
- ان العلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة لها حدود، سواء في الفوائد او مجالات العمل. و الرسالة التي يبعثها ماجور هنا هي ان تلك العلاقة لن تُغني عن ما ستفقده بريطانيا من خروجها من الاتحاد الأوروبي.
- ان قدرة بريطانيا على التصدي للتحديات التي تواجهها – و قد عددها، و كان من ضمنها العنف المستخدم من جماعات إسلامية – ستكون اقل في الفترة القادمة، بسبب تشتت جهود حكوماتها القادمة، في المستقبل المنظور، لادارة الأوضاع الاقتصادية التي ستنجُم عن الخروج من الاتحاد الأوروبي.
- و ان مستقبل المملكة المتحدة (و هي الهيكل القانوني الجامع لمكونات بريطانيا: إنجلترا، ويلز، إسكتلندا، و إيرلندا الشمالية) قد يحمل مشاكل كبرى، منها احتمالية تفكك هذا الاتحاد.
ماجور دخل في التفاصيل. مثلاً تحدث عن التكلفة المالية للخروج من الاتحاد الأوروبي و الإرهاق الذي يراه للخزينة البريطانية. تحدث عن ضياع دور اجادته بريطانيا لعقود، و هو كونها جسر بين الولايات المتحدة و أوروبا. كما أشار الى التحديات التي يثيرها صعود الصين للغرب بشكل عام، و الضعف في موقف بريطانيا إزاء بعض هذه التحديات.
الحديث مهم للمهتمين ببريطانيا و مستقبل أوروبا و باسباب القوة و الضعف الظاهرة الآن في كل الغرب. لكن هناك جانب أخر في ذلك الخطاب مهم بشكل عام حتى لغير المهتمين بما يحدث في العالم الغربي. و ذلك هو صراحة الحديث عن أخطاء الحكم و الحكومة و توجيه اللوم بكل وضوح الى الهيكل السياسي الحاكم، ليس من خلال صريخ و القاء اتهامات بكلمات فضفاضة، و لكن من خلال رأي منظم، معتمد على ارقام موثقة قادمة من مصادر محترمة، و من خلال تقديم ذلك الرأي بشكل هادئ و واضح موجه للمستمع عادي، و ليس الى قمة المجتمع.
هناك أهمية أخرى. ماجور لم يكتفي بوضع اللوم على المجموعة ذات التأثير الأهم هذه الأيام داخل حزب المحافظين الحاكم، و انما لمس ايضاً أسباب ضعف داخل المجتمع البريطاني، و أشار اليها بوضوح. و بعد كل ذلك، الرجل لم يُنهي حديثه بكلمات عن امال و أحلام و احتماليات كبرى للخروج من ذلك الوضع الصعب الذي فصله في حديثه. على العكس، الرأي كان شديد الصراحة حول صعوبة الحلول، إن وُجِدت.
كل ذلك دال ليس فقط على عمق حرية الرأي و التعبير، و ليس فقط على تحمل بعض الناس امانة ان يقولوا رأيهم بصراحة و بنزاهة .. لكن ايضاً كل ذلك دال على قدرة مجتمع و نضجه ان يستمع الى اراء صعبة حاملة رسائل ثقيلة، بدون ان يرفضها بسذاجة او بتمنيات تحمل من الأوهام اكثر كثيراً من ما تفهمه من الواقع.