التاريخ يُثمل الشعوب، في رأي الكاتب بول فاليري. النقطة الرئيسة عنده ان اللحظات الفارقة في حياة الشعوب تأخذ معاني مختلفة، تقوي او تُضعِف مصالح معينة، و تترك وراءها سرديات بعيدة عن مجريات ما قد حدث فعلاً. لأن المصالح تحاول كسب الرأي العام، و (غالباً) تخلق تتابعات أحداث، و منطق لتلك الأحداث، و مواقف لمختلف اللاعبين تعبر عن رؤاها. و النتيجة سرديات يُقال عنها تاريخ، بينما هي مجرد سرديات (و في السرديات مبالغات، و أحيانا كذب).

و لأنه اذا كانت المقدمات غير صحيحة، فإن النتائج بالضرورة غير صحيحة، فعلى قراءات الماضي المتجردة من المصالح ان تتجرد أيضا من السرديات المختلفة.

لكن ذلك صعب في الحقيقة، لأن الكتابة التاريخية غالباً خارجة من خلفيات معينة، هي نفسها متأثرة بسرديات معينة. لكن اذا جاءت الكتابة التاريخية بعد عقود كثيرة بعد ما تكتب عنه، فهناك فرصة معقولة للتجرد في النظر للتاريخ .. و هذا ما تحاول هذه السلسلة ان تفعله في قراءة مشروع جمال عبد الناصر بعد خمسين سنة من موت الرجل، و بدون فيض المشاعرالذي تحدثت عنه في المقال الأول من هذه السلسلة.

نصف قرن من الزمن يخلق بُعد تاريخي. و ذلك بالضرورة فاصل بين الحاضر و بين العصر الذي تدور حوله الكتابة. البعض قد يختلف مع هذه النقطة. ذلك لأن هناك رأي يرى ان نصف قرن فترة صغيرة في عمر الدول، خاصة تلك مثل مصر حيث التغيرات الكبرى نادرة و حيث الثقافة الزراعية، المحبة للسكون و للاستمرارية، ضاربة في أعماق الشخصية العامة. من هذه الرؤية فإن النظام الذي اسسه جمال عبد الناصر ما زال متحكما في البلد .. ليس بادوات الخمسينات و الستينات و لكن بمنطقها.

في المقابل، هناك رأي يرفض التعميمات، مثل ان مصر، بحكم جغرافيتها و تاريخها، محكومة بالتأثر بالعقلية الزراعية. هذا الرأي يرى تغيرات كبرى في هيكل المجتمع المصري، و في أسلوب حياته، و بالطبع في مصادر و مراكز الثروة فيه، و من ثم فإن هذا الرأي يرى ان أي ربط بين مصر العقد الثالث من القرن الواحد و العشرين و مصر منتصف القرن العشرين تبسيط مّخِل للتاريخ و لفهم الاقتصاد السياسي للدولة.

هناك عامل بُعد أخر في محاولة رؤية عصر عبد الناصر الأن، و هو المصادر. للأسف غالبية ما قيل و كتب عن الرجل و تجربته في العالم العربي كان مُسييسا، و كثيرا ما كان بدرجة مذهلة، سواء من التقديس او من الذم. و المشكلة هنا ان رؤية الرجل و مشروعه كانا متأثران بما هو أكثر من المشاعر الشخصية. كان هناك فَعل الدول، سواء في مصر نفسها او في المشرق او المغرب او في الخليج. و ذلك مفهوم. قوة تأثير تجربة عبد الناصر (إيجابا و سلبا) جعلت من المهم لدول عربية مختلفة ان تحاول التأثير في الوعي العربي العام بتلك التجربة. بالإضافة الى ذلك، كانت هناك محاولات عديدة لربط عبد الناصر بقضايا مختلفة في العالم العربي، كانت الماكينة الإعلامية لعبد الناصر قد أكثرت الحديث عنها، و لكن كانت التجربة الحقيقية ذات تأثير محدود فيها. ذلك الربط أضفى على مشروع عبد الناصر ابعاد واسعة جعلت أساس التجربة، و الشخصية الكامنة فيه، باهتان في الصورة العامة.

التسييس كان ايضاً موجودا في الكثير من المصادر الغربية. لان أهمها كتبه سياسيون غربيون، خاصة في إنجلترا، راؤا في عبد الناصر عدوا و تهديدا. او في المقابل، هناك كتابات، مثلا في روسيا، امتلئت بمبالغات لانها رأت الرجل كحليف كبير ضد اعدائها الغربيين، و قد كانت بعض هذا الكتابات بروباجاندا داخلية غير معنية كثيرا بالتاريخ، بقدر ما هي معنية بافتراضات تريد فرضها.

بعض المفكرون الاستراتيجيون المهمون في الغرب تناولوا مشروع جمال عبد الناصر، لكن دائما بشكل سريع، و غالبا ما ربطوه بحركة القومية العربية و تراجعها من الأفكار التقدمية في بدايات القرن العشرين الى ايدلوجيا استعملتها العديد من النُظم العربية الدكتاتورية. بعضهم تناول مشروع عبد الناصر من فكرة التحول الديمقراطي. و في الحالتين مشروع عبد الناصر مُدان. لكن، مرة أخرى، الإدانة جاءت سريعة بدون غوص في عمق المشروع: ما الذي جاء به؟ ما الذي أعطاه قوة الدفع الكبرى التي كانت له لعقدين من الزمن؟ و التي استمرت مع الفكرة التي أخذها اسم عبد الناصر في عقول ملايين العرب؟ لذلك فان اغلب المصادر الغربية قد تكون مفيدة في رؤية زوايا للصورة، لكن ليس أكثر.

هناك احتياج اذن لوقفة جديدة، عربية، متجردة مع مشروع جمال عبد الناصر .. تحاول ان تجاوب عن السؤال الذي طرحه منتجوا سلسلة ال(BBC) لي عن علاقة الرجل بالناس (راجع المقال الأول في هذه السلسلة).